أحمد الله سبحانه على ما أولانا من النعم ودفع من النقم، نسأله سبحانه أن يوزعنا شكر نعمه التي أنعمها علينا وعلى والدينا، وأن يعاملنا بفضله، ولا يعاملنا بعدله، فإنه سبحانه هو المنعم بكل أنواع الإنعام، فهو الذي أعاننا على ذكره وشكره، وهو الذي هدانا لطاعته {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}[الأعراف:٤٣] .
فالهداية فضل منه ونعمة، وكذلك الإعطاء والمنة والإلهام كل ذلك محض فضله على عباده؛ حتى عباداتهم هي إلهام منه وتوفيق، فهو الذي أعانهم ووفقهم وسددهم وقواهم، وجعلهم مطيعين له، ولو شاء لأضلهم جميعاً، ولو شاء لهداهم جميعاً، وله المشيئة النافذة، وله الحكمة البالغة، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}[الأنبياء:٢٣] ونعمه على عباده لا تحصى، وأياديه عليهم لا تستقصى، فإذا مسهم بالسرور فهو محض فضله، وإذا مسهم بضر فهو ابتلاء منه وامتحان، وفي الصبر على ذلك أجر عظيم، ولذلك يقول بعضهم في بيان الشكر: إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتسع العمر إذا مس بالسراء عم سرورها وإن مس بالضراء يعقبها الأجر فالعبد إذا قال: الحمد لله، فهذه نعمة ألهمه الله وأعانه عليها، فهذه النعمة التي هي الإلهام تحتاج إلى نعمة أخرى يشكرها بها، فإذا قال: أشكر الله، أو: الشكر لله، فهذه نعمة أخرى تستدعي أن يشكر الله عليها، فإذا قال: رب! لك الحمد، فهذه نعمة أخرى تستدعي أن يشكرها، وكذلك إذا ذكر الله وكبره وسبحه واستغفره، كل ذلك نعم منه، وكل نعمة فلها حق أن تشكر ولا تكفر، ولأجل ذلك كانت له النعمة على عباده، وله الفضل عليهم، كما مر بنا أنه لو عذب أهل سماواته لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم؛ وذلك لأنه لا يظلم أحداً، فلا يعذبهم إلا على تقصير منهم في شكر ربهم، ولو حاسبهم على أعمالهم ولو كانت أمثال الجبال، لم تقاوم أصغر نعمة عليهم، سواء كانت نعمة حسية كأسماعهم وعقولهم وألسنتهم وقواتهم، أو نعماً معنوية: كهدايتهم وتعليمهم وفطرتهم الحسنة ونحو ذلك، فإنه لو حاسبهم على هذا العطاء لعذبهم، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى:{فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}[الانشقاق:٨] : (إن ذلك حساب العرض) ، أن تعرض عليهم أعمالهم دون أن يناقشوا فيها؛ ولذلك يقول:(إن من نوقش الحساب عُذِّب) ، أي: من ناقشه الله الحساب على دقيق النعم وجليلها، وعلى دقيق الأعمال وجليلها، وصغيرها وكبيرها، فإنها وإن كانت حسناته أمثال الجبال لا تقوم أمام أصغر نعم الله عز وجل عليه، فإذاً لابد إذا حاسبهم حساباً شديداً عسيراً أن يعذبهم.
ومر بنا قول النبي صلى الله عليه وسلم:(لن يدخل أحدكم الجنة بعمله.
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) ، هذا وهو سيد الخلق وسيد العاملين، الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والذي كان يقوم الليل حتى تفطرت قدماه، ويقول:(أفلا أكون عبداً شكوراً) ، ومع ذلك أخبر أنه بحاجة إلى رحمة الله! إذاً: فنحن أولى بأن نحتقر أعمالنا، نحن أولى بأن نظهر فقرنا وفاقتنا، نحن أولى بأن نصغر أنفسنا، نحن أولى بأن نظهر الضعف نظهر الفقر نظهر الفاقة نظهر العجز نظهر الذل الذي نحتاج معه إلى التقوية، والذنوب التي نحتاج معها إلى المغفرة، والتقصير الذي نحتاج معه إلى العفو، فإذا لم يتلاف عباده بعفوه فإنهم هالكون، ولذلك لا ينبغي لنا أن نزكي أنفسنا، ونمدحها بكثرة أعمالنا، ونقول: نحن أكثر عملاً، نحن أكثر حسنات من هذا وهذا، نحن الذين عملوا وعملوا، فإن هذه التزكية قد تكون سبباً لحبوط العمل وبطلان ثوابه، ولأجل ذلك يقول الله تعالى:{فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ}[النجم:٣٢] أي: لا تمدحوها وتفتخروا بأعمالكم، بل الله يزكي من يشاء، فهو الذي يمدح من يشاء أو من يستحق المدح، وعلى هذا فليحتقر المسلم عمله حتى يحصل له مضاعفة الله له، وليطلب من ربه المغفرة، وليدخل عليه من باب الذل والافتقار، وربنا سبحانه عند المنكسرة قلوبهم من أجله.