قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وقد اختلف في مستقر الأرواح ما بين الموت إلى قيام الساعة، فقيل: أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكافرين في النار، وقيل: إن أرواح المؤمنين بفناء الجنة على بابها يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها، وقيل: على أفنية قبورهم، وقال مالك: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت، وقالت طائفة: بل أرواح المؤمنين عند الله عز وجل، ولم يزيدوا على ذلك، وقيل: إن أرواح المؤمنين بالجابية بدمشق، وأرواح الكافرين ببرهوت بئر بحضرموت، وقال كعب: أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة، وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة تحت خد إبليس، وقيل: أرواح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكافرين ببئر برهوت، وقيل: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله، وقال ابن حزم وغيره: مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها، وقال أبو عمر بن عبد البر: أرواح الشهداء في الجنة، وأرواح عامة المؤمنين على أفنية قبورهم، وعن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش تغدو وتروح إلى رياض الجنة، تأتي ربها كل يوم تسلم عليه، وقالت فرقة: مستقرها العدم المحض، وهذا قول من يقول: إن النفس عرض من أعراض البدن كحياته وإدراكه، وقولهم مخالف للكتاب والسنة.
وقالت فرقة: مستقرها بعد الموت أبدان أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبتها في حال حياتها، فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الروح، وهذا قول التناسخية منكري المعاد، وهو قول خارج عن أهل الإسلام كلهم، ويضيق هذا المختصر عن بسط أدلة هذه الأقوال والكلام عليها، ويتلخص من أدلتها أن الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت، فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهم متفاوتون في منازلهم، ومنها أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء لا كلهم، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه، كما في المسند عن محمد بن عبد الله بن جحش أن رجلاً جاء إلى النبي فقال:(يا رسول الله! ما لي إن قتلت في سبيل الله؟ قال: الجنة، فلما ولى قال: إلا الدين، سارني به جبرائيل آنفاً) .
ومن الأرواح من يكون محبوساً على باب الجنة، كما في الحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:(رأيت صاحبكم محبوساً على باب الجنة) ، ومنهم من يكون محبوساً في قبره، ومنهم من يكون في الأرض، ومنها أرواح تكون في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة، كل ذلك تشهد له السنة، والله أعلم] .
الأرواح باقية بعد الموت، والفناء يكون على الأجساد، فإذا عرفنا أن الأرواح باقية فأين تكون هذه الأرواح؟ سمعنا هذه الأقوال الكثيرة في مستقر الأرواح، وهذه الأقوال الغالب أنها مبنية على الظن، وقد يكون بعضها له دليل، ولكن يظهر أن الأرواح تتفاوت بحسب الأعمال، والله تعالى قد ذكر بعض هذه الأقوال أو أشار إليها، وكذلك الأحاديث، فقد ثبت في الحديث الصحيح:(أرواح الشهداء في جوف طير خضر تعلق من شجر الجنة) ، ومعناه: أن أرواحهم تكون في الجنة، وثبت في القرآن أن أرواح آل فرعون تعرض على النار:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً}[غافر:٤٦] وعلى هذا فأرواح آل فرعون في النار تعرض عليها غدواً وعشياً.
وورد في القرآن قول الله تعالى:{كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ}[المطففين:٧] و {إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ}[المطففين:١٨] وسجين فسر بأنه في الأرض السابعة، وعليون فوق السماء السابعة، ومعنى أن كتابهم في عليين أي: كتاب أعمالهم وقيل: وأرواحهم كذلك، وقد مر بنا في حديث البراء الطويل أن الله يقول:(اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وردوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم) ، ويقول في الكافر:(اكتبوا كتاب عبدي في سجين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم) ، وذكر فيه أن روح الكافر تطرح طرحاً، وقرأ قول الله تعالى:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}[الحج:٣١] فدل على أنه يطرح من السماء، ويتألم بذلك الطرح.