[الرسول صلى الله عليه وسلم وعموم رسالته]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولذكر دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من المعجزات وبسطها موضع آخر، وقد أفردها الناس بمصنفات كـ البيهقي وغيره.
بل إنكار رسالته صلى الله عليه وسلم طعن في الرب تبارك وتعالى، ونسبته إلى الظلم والسفه -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- بل جحد للرب بالكلية وإنكار، وبيان ذلك أنه إذا كان محمد عندهم ليس بنبي صادق، بل ملك ظالم، فقد تهيأ له أن يفتري على الله ويتقول عليه، ويستمر حتى يحلل ويحرم، ويفرض الفرائض، ويشرع الشرائع، وينسخ الملل، ويضرب الرقاب، ويقتل أتباع الرسل وهم أهل الحق، ويسبي نساءهم، ويغنم أموالهم وذراريهم وديارهم، ويتم له ذلك حتى يفتح الأرض، وينسب ذلك كله إلى أمر الله له به ومحبته له، والرب تعالى يشاهده وهو يفعل بأهل الحق، وهو مستمر في الافتراء عليه ثلاثاً وعشرين سنة، ومع ذلك كله يؤيده وينصره، ويعلي أمره، ويمكن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البشر.
وأبلغ من ذلك أنه يجيب دعواته، ويهلك أعداءه، ويرفع له ذكره، هذا وهو عندهم في غاية الكذب والافتراء والظلم؛ فإنه لا أظلم ممن كذب على الله، وأبطل شرائع أنبيائه، وبدلها وقتل أولياءه، واستمرت نصرته عليهم دائماً، والله تعالى يقره على ذلك، ولا يأخذ منه باليمين، ولا يقطع من الوتين.
فيلزمهم أن يقولوا: لا صانع للعالم ولا مدبر، ولو كان له مدبر قدير حكيم لأخذ على يديه، ولقابله أعظم مقابلة، وجعله نكالاً للصالحين؛ إذ لا يليق بالملوك غير ذلك، فكيف بملك الملوك وأحكم الحاكمين؟ ولا ريب أن الله تعالى قد رفع له ذكره، وأظهر دعوته والشهادة له بالنبوة على رءوس الأشهاد في سائر البلاد، ونحن لا ننكر أن كثيراً من الكذابين قام في الوجود وظهرت له شوكة، ولكن لم يتم أمره ولم تطل مدته، بل سلط الله عليه رسله وأتباعهم فقطعوا دابره واستأصلوه، فهذه سنة الله التي قد خلت من قبل، حتى إن الكفار يعلمون ذلك، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:٣٠-٣١] ، أفلا تراه يخبر أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقوَّل عليه بعض الأقاويل، فلابد أن يجعله عبرة لعباده كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:٢٤] ، وهنا انتهى جواب الشرط، ثم أخبر خبراً جازماً غير معلق أنه يمحو الباطل ويحق الحق، وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْء} [الأنعام:٩١] ، فأخبر سبحانه أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره] .
بدأ الشارح أولاً ببيان أن دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كثيرة، وقد أفردت بالتآليف، وذكر منها ابن كثير في تاريخه في آخر السيرة الشيء الكثير، وتتبعها الكثيرون، ومن أوسع من توسع فيها البيهقي في (دلائل النبوة) الذي هو مطبوع، وكذلك أبو نعيم له أيضاً كتاب (دلائل النبوة) ، وهكذا غيرهم، وبمجموعها وبأكثرها يعلم ويتيقن أنه صلى الله عليه وسلم صادق فيما جاء به، فكيف بمجموعها مع كثرتها.
ثم إن الشارح ضرب مثلاً في أن المكذبين لنبينا صلى الله عليه وسلم كاليهود والنصارى، وكذلك سائر المكذبين، لا شك أنهم قد سبوا الله وتنقصوه غاية التنقص من حيث لا يشعرون، وذلك بأن منهم من يقول بأنه كذاب -قاتلهم الله- فكثير من اليهود يدعون أنه كذاب وأنه مفترٍ، وكذلك أيضاً كثير من النصارى ومن الوثنيين وغيرهم، وآخرون يقولون: إنه رسول إلى العرب فقط وليس برسول إلى غيرهم، فرسالته خاصة.
فيقال لهؤلاء -كما قال الشارح رحمه الله-: أنتم قد تنقصتم الله غاية التنقص، وذلك لأنكم ادعيتم أنه كذاب، والله تعالى ينصره وهو مع ذلك يتصرف هذه التصرفات وهو كذاب في زعمكم، ومع ذلك يدعي أنه مرسل من الله فيحلل أشياء ويحرم أشياء، ويبطش بالناس، ويقتل ويأسر ويوثق وينتقم، ويسبي الذراري، ويقتل الآباء، ويحبس، ويفتح البلاد، ويدوخ العباد، ويجول في الأرض كما هو الواقع، وهو مع ذلك كذاب مفترٍ بزعمكم، والله يؤيده ويقويه وينصره ويمده بالمعجزات ويمده بالملائكة التي تقويه، ويجيب دعواته، وينتصر له وهو يعلم أنه كذاب وأنه مفترٍ، فهذا بلا شك تنقص لله تعالى، وحكمة الله تأبى إلا أن ينتقم ممن كفر كما انتقم من الذين كذبوا الرسل فيما سبق وأحل بهم أنواع العقوبات، وأنزل بهم أنواع المثلات.
وقد ذكر الله تعالى أنه ينتقم منه لو كذب، قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:٤٤-٤٦] يعني: أنه لو كان متقولاً وكاذباً لانتقمنا منه وبطشنا به بطشاً شديداً، وأمتناه وقطعنا دابره كما فعلنا ذلك بمن كذب وافترى، فإنه ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بعض المفترين والكذابين ولكن ما متعوا، ومنهم رجل تسمى بـ الأسود العنسي الذي تنبأ في اليمن، ولكن ما لبث إلا ثلاثة أشهر حتى قتل، ومنهم مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة في آخر العهد النبوي وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وبايعه أكثر من مائة ألف، ولما غزاهم الصحابة في نحو عشرة آلاف أو أقل لم يقفوا دونهم، بل سلط عليه من قتله، فقتله عبد أسود، ثم بعد ذلك اضمحلت دعوته ولم يبق لها أثر، فهذه سنة الله فيمن كذب وافترى عليه.
لكن رسالة هذا النبي الكريم باقية مستمرة، وهي الآن في القرن الخامس عشر، وهي مع ذلك -والحمد لله- تزداد قوة وعلواً وظهوراً، وأتباعه الذين ينتمون وينتسبون إلى رسالته لهم التمكن ولهم القوة، فكلما حققوا السير على طريقته والتمسك بسنته يتحقق فيهم قول الله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:٤٠] ، وقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر:٥١] وقوله تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:٧] وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ} [آل عمران:١٣٩] وقوله تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ} [الصافات:١٧٣] وقوله تعالى: {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:٢٢] .
وتحقق ذلك كله في أتباع هذا النبي الكريم، فدل ذلك يقيناً على أنه صادق مصدق شهدت برسالته العقول، وشهدت بصدقه القلوب، وعرف ذلك الخاص والعام، وأظهر الله دينه كما وعد بذلك في قوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:٣٣] ، فصدق الله هذا الوعد وأظهره على الدين كله حتى دخل دين الإسلام في أكثر المعمورة وفي أكثر بقاع الأرض، وبقي ظاهراً جلياً كلما تمسك أهله به أظهرهم الله تعالى وقواهم، ولا شك أن هذا دليل على أن هذه الشريعة من الله، وأن الذي جاء بها هو الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.