[الجواب عن استدلالهم بحديث: (لا يصلي أحد عن أحد)]
واستدل بحديث: (لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد) ؛ ولكن وردت الأدلة في انتفاعه بالصوم في قوله عليه الصلاة والسلام: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) ، ولما جاءته امرأة وقالت: (إن أمي ماتت، وعليها صيام نذر أو صيام شهر.
قال: أرأيتِ لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء -أو: فدين الله أحق بالقضاء-) فأمرها بأن تصوم عن أمها، وسواء كان هذا الصوم فرضاً أو نذراً فإنه أقرها على أن تصوم، بل أمرها بذلك، وشبهه بقضاء الدين.
وعلى هذا فمعنى قوله: (لا يصلي أحد عن أحد) ، أي: لا يصلي عنه وهو قادر، يعني: لا يوكل أحد أخاه يصلي عنه، يقول: صلِ عني صلاة الظهر، أو: صلِ عني صلاة العشاء، أو: وكلتك أن تصلي عني صلاة المغرب أو العصر أو نحو ذلك، أو: وكلتك أن تصوم عني هذا اليوم من رمضان أو ما أشبه ذلك وهو قادر، فإن هذا لا يجوز؛ وذلك لأن العبادة وجهت إلى الإنسان القادر، فلا يجوز له أن ينيب غيره ولا يجوز له أن يوكل من يعمل عنه ذلك العمل وهو قادر؛ وذلك لأن الحكمة في هذه العبادة ظهور العبودية على الفاعل، فالصلاة فرضت على المسلمين، ولا يجوز لأحد أن يوكل من يصلي عنه، فإن تذلل المصلي يفوت بالتوكيل، فالمصلي يتذلل ويخشع ويخضع ويتواضع، ويظهر منه الخشوع والذل بين يدي ربه، وهذا لا يحصل له إذا وكل من يصلي عنه، فلا ينتفع بهذه الصلاة، ولا يحصل له بها تذلل ولا خشوع ولا تضرع وتمسكن بين يدي ربه.
وكذلك الصيام شرع لإظهار الامتثال بترك طعامه وشرابه وزوجه لأجل امتثال أمر الله، فإذا وكل من يصوم عنه وأخذ يأكل ويشرب، اعتبر غير متقبل لأمر الله، ولم يجز عنه توكيله، فلأجل ذلك قالوا: لا يوكل في العبادات البدنية التي الحكمة منها إظهار الاستكانة والذل بين يدي الرب.
ويلحق بذلك: حج الفريضة للقادر، فمن كان قادراً على الحج بالبدن وبالمال فإنه يكلف بأن يفعله ولا يوكل فيه، وذلك لأن الحكمة تقتضي الأمرين: تقتضي إنفاقه من ماله في هذا السبيل، وتقتضي عمله ببدنه هذه الأعمال، والأفضل هي الأعمال التي أمر بها، والأصل في شرعية الحج أن يظهر أثره على العامل، فالحاج إذا أحرم وخضع وخشع وتمسكن بلباسه الذي فيه تجرده عن لباسه المعتاد، أليس ذلك من أجل العبادات؟ هل تحصل له تلك المسكنة إذا وكل غيره؟! أليس إذا أخذ يطوف على البيت العتيق يحصل الثواب والتذلل، ويحصل له إخبات بين يدي ربه؟ هل يحصل هذا الإخبات إذا وكل عنه من يحج عنه؟! وهكذا إذا وقف بعرفات وهو خائف راج ذليل متواضع، هل تحصل هذه الحالة إذا وكل من يقف عنه؟!.
إذاً: فالحج في الأصل هو العبادة البدنية.
وقد عرفنا أنه غالباً ما يتكون من المال والبدن، ولكن قد يكون بدنياً محضاً، كالمكي الذي لا يقدر على أن يستأجر سيارة أو دابة يركبها، ولكنه قادر على أن يمشي ببدنه من مكة إلى منى، وإلى مزدلفة، وإلى عرفات، أليس ذلك مكلفاً بأن يحج ولا يسقط عنه الحج؟ أليس حجه بدنياً ليس فيه شيء من المال؟ وهذا يدل على أن الأصل في العبادة هو تحريك هذا البدن، فلأجل ذلك لم يصح أن يوكل فيه، ولكن إذا حج فرضه مع القدرة، ثم تبرع له ولده، أو تبرع له أخوه بأن أدى عنه حجة أخرى، أو طاف تطوعاً وأهدى طوافه له، فلا شك أنه ينتفع بذلك، حتى ولو كان قادراً.
أما إذا عجز عن الحج إما لعيب في بدنه، وإما لقلة في ماله، وإما للصعوبة والمشقة بينه وبين الحرم، فإنه في هذه الحالة معذور، وإذا وكل غيره، أو قام غيره مقامه في هذا العمل وتبرع له متبرع؛ فإن ذلك ينفعه.
فعرف بذلك الفرق بين العبادات البدنية المحضة كالصوم، والصلاة، والحج لمن هو في مكة، فإنها لا تدخلها النيابة إذا كانت فرضاً، وأما إذا كانت تطوعاً وأهدي له ثوابها فلا مانع من أن ينتفع به.
أما بالنسبة للأعمال الأخرى فإنها تدخلها النيابة، فالأذكار يصح أن يذكر الله تعالى وأن يهدي ثوابها لأخيه أو قريبه، وكذلك المرء مأمور أن يدعو لأقاربه، أو للمسلمين عموماً، والصدقات يصح أن يوقعها عن قريبه حياً أو ميتاً بجزء من ماله، وهكذا بقية الأعمال.
وقد مر بنا بعض الأشياء التي فيها خلاف، وعرفنا كيف الجواب عنها.