الأنبياء أعلى مقاماً من الشهداء؛ وذلك لأن الله ميزهم بميزة، وخصهم بكرامة، وهي اختصاصهم بالنبوة، وبالوحي، وبالرسالة، وبالفضيلة التي فضلهم بها على غيرهم، ومعلوم أنهم يموتون كما قال تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}[الزمر:٣٠] ، وإذا كانوا يموتون ولابد بمعنى أنهم يخرجون من هذه الدنيا إلى الآخرة، فإن لهم حياة أكمل من حياة الشهداء، ولكنها حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء، فأجسادهم لا تبلى، بل تبقى في القبور ولا تأكلها الأرض، ففي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال:(إن من خير أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا من الصلاة علي فيه، فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: يا رسول الله! كيف تعرض عليك وقد أرمت -أي: بليت-؟ فقال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) ، فأجساد الأنبياء لا تأكلها الأرض ولا تبلى، ولو أنهم دفنوا في الأرض، ولو لم تعرف أماكنهم.
ومن العلماء من يقول: إنهم يرفعون؛ ولذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء في السماء، فرأى آدم في السماء الدنيا، ورأى يحيى وعيسى في السماء الثانية، ورأى يوسف في السماء الثالثة، ورأى إدريس في السماء الرابعة، ورأى هارون في السماء الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة، ولكن الصحيح أن الذي رآه أرواحهم، وأنها مثلت في أجساد حتى رأوه وعرفوه وسلموا عليه، وقالوا: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، أما أجسادهم فيمكن أنها رفعت، ويمكن أنها دفنت في الأرض، وهو المتبادر.
وبكل حال فلا شك أنهم أكمل من الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، وبلا شك أن بعض الشهداء قد يكون عليه شيء من الذنوب التي لا تكفرها الشهادة، كما في الحديث أن رجلاً قال:(يا رسول الله! هل تكفر الشهادة ما علي من الذنوب؟ قال: نعم، ثم قال: إلا الدين، أسره إلي جبريل) ، أو قال:(أرأيت إن قتلت في سبيل الله هل يغفر لي؟ قال: نعم، ثم قال: كيف قلت؟ قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أيغفر الله لي؟ فقال: نعم إلا الدين) ، فهذا دليل على أن الذي عنده شيء من حقوق الآدميين لا تغفر له، بل لابد فيها من المحاقة والمقاصة في الآخرة، فإذا لم يوف له أولياؤه في الدنيا فإنها تؤخذ من أعماله في الآخرة، وأما خطاياه التي بينه وبين ربه فإن القتل في سبيل الله يمحوها كلها، ولا يبقى عليه ذنب.