تقدم ما ذكره الشارح رحمه الله فيما يتعلق بالذين يعظمون البله والمجاذيب والمجانين ونحوهم، ويعتقدون أنهم من المقربين، ويعتقدون أنهم يصلون إلى الله تعالى من طرق غير طرق الأنبياء والرسل، وأنهم يمكن أن يستغنوا عن الشرائع السماوية، وأنهم لذلك يستحقون أن يُقتدى بهم في أفعالهم، ويُسار على مناهجهم، وهذه الأقوال -وللأسف- انتشرت في المتصوفة، ويكثر تواجدهم في الدول الإفريقية وفي غيرها، ويقول وجودهم إذا قويت العقائد السلفية، وإذا تمكنت معرفة التوحيد عند أهله، ولكن لا يزال الكثير على هذه المناهج الفلسفية والطرق الصوفية، ولا يزالون ينقلون تلك النقول ويموهون على العوام أن هؤلاء ولو كانوا ناقصي العقول فإن قلوبهم عند ربهم، وأنهم سقطت عنهم التكاليف ولو كانوا من البشر، وأن جميع كلامهم حكم وآيات وعبارة! ولكن ذلك كله لا يروج إلا على الجهلة الذين هم أتباع كل ناعق، أما أهل السنة والجماعة وأئمة الدين وفقهاء الإسلام فإنهم يعرفون أن الطرق كلها مسدودة إلا الطريق الشرعية، وهي طريق الرسل الذين أرسلهم الله ليوضحوا للناس الشرائع، وليدلوهم على ما يقربهم إلى ربهم، فمن سلك تلك الطرق التي هي طرق أولئك المشعوذين وأولئك المموهين ونحوهم فإنها تؤدي به إلى الهلاك، ومن سلك الطريق الأقوم الذي هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يؤدي به إلى النجاة والفلاح.
ولقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم:(خط خطاً مستقيماً، وخط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، وقال للخط المستقيم المستمر: هذا صراط الله، وقال للطرق المنحرفة عن يمينه وشماله: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه) ، فمن سار على ذلك الخط المستقيم وصل إلى النجاة، ومن انحرف وأخذ بنيات الطريق ضل وهلك وتردى.
وضرب بعضهم لذلك مثلاً بجريد النخل: فإنه يُشاهد أنه يتدلى بعضه حتى تصل أطرافه إلى الأرض، فلو أن حشرة من الحشرات ارتقت على الجريدة وسارت على وسطها ولم تنحرف فإنها تصل إلى أعلى النخلة، وتأكل من ثمرها، أما إذا انحرفت وركبت إحدى الأغصان المتدلية فإنها تسير عليها قليلاً، ثم تسقط بنهايتها، فهكذا من سار على هذا الخط المستقيم أوصله إلى كرامة الله، وأوصله إلى الدرجات، وأوصله إلى النجاة، أما من انحرف وركب هذه الطرق فلا يأمن أن يهلك ويتردى، وقد تمادى هؤلاء في مدح أولئك المجانين والمجاذيب الذين يسمون أحدهم مجذوباً، ويقولون: قلبه عند ربه! وتمادوا في تعظيمهم حتى ادعوا أنهم: إذا ماتوا رفعوا إلى السماء! هكذا يعتقدون فيهم، ويموهون أن هذا الذي هو سقيم العقل عند الناس ما ذُهب بعقله إلا أنه تعلق بربه، وأن ربه قد أسقط عنه التكاليف، وأباح له كل شيء، أباح له أن يفجر! وأن يزني! وأن يقتل! وأن يفعل الجرائم والبشائع دون أن يكون عليه إثم أو يكتب عليه سوء! ونحن نقول: إذا ثبت أنه مجنون بمعنى: أنه مسلوب العقل والفطرة فهذا أقل أحواله ألا تُكتب عليه لا حسنات ولا سيئات، فأما أن يتفوق على أهل الحسنات، وعلى الصالحين من عباد الله فحاشا وكلا، إذ لا يمكن أن يكون المجنون أرقى درجة من العاقل الذي عمَّر وقته بالصلوات، وعمَّر وقته بالعبادات، وأكثر من الحسنات! ثم إن المجنون قد يكون ملحقاً بأهل الفترات الذين لم تأتهم الدعوة، أو في أماكن نازحة لم تبلغهم الرسالة، ولم يسمعوا عن الإسلام، ولا عن دين الإسلام، فهؤلاء لا نحكم بضلالهم ولا بكفرهم، ولا نخلدهم في النار؛ لأنهم قد يعتذرون ويقولون: يا ربنا! بأي شيء نتعبد؟! لو أعطيتنا عقولاً لتعبدنا كما تعبد هؤلاء، أو لو بلغتنا الشرائع لتعبدنا كما تعبد أهلها؛ ولكن الله تعالى يمتحنهم، ففي الحديث أنه يقول لهم:(أرأيتم إذا أمرتكم بأمر أتطيعوني؟ فيقولون: وما لنا لا نطيعك وأنت ربنا؟! فتُمثل لهم نارٌ تشتعل، فيُقال: ادخلوها، فمن علم الله أنه من أهل السعادة والخير دخلها، وكانت عليه برداً وسلاماً، ومن علم الله أنه شقي ليس من أهل الجنة فإنه يتقاعس ولا يدخلها، فيقول الله: قد أمرتك فعصيتني، فكيف لو أمرتك رسلي! أنت من أهل النار) فيتميز بذلك أهل الجنة من أهل النار.
فالبُله والمجذوبون والمجانين وناقصو العقول ونحوهم الذين بلغوا واستمروا على ذلك إلى الممات ملحقون بأهل الفترات، وملحقون بأهل الأماكن النائية الذين لم تبلغهم الدعوة، هذه حالتهم.
وبذلك يُعرف أن الذين فضلوهم على العقلاء، وفضلوهم على الأنبياء، وجعلوهم مستغنين عن الشرائع؛ قد أتوا قولاً إدَّاً.