قوله تعالى: (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم)
قال رحمه الله: [ومن هذا قوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:٧٨] ، إلى آخر السورة، فلو رام أعلم البشر وأفصحهم وأقدرهم على البيان أن يأتي بأحسن من هذه الحجة أو بمثلها في ألفاظ تشابهه هذه الألفاظ في الإيجاز ووضع الأدلة وصحة البرهان؛ لما قدر، فإنه -سبحانه- افتتح هذه الحجة بسؤال أورده ملحد اقتضى جواباً، فكان في قوله: (ونسي خلقه) ما وفّى بالجواب، وأقام الحجة وأزال الشبهة، لوما أراد سبحانه من تأكيد الحجة وزيادة تقريرها، فقال: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:٧٩] ، فاحتج بالإبداء على الإعادة، وبالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، إذ كل عاقل يعلم -علماً ضرورياً- أن من قدر على هذه قدر على هذه، وأنه لو كان عاجزاً عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز، ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على مخلوقه وعلمه بتفاصيل خلقه، أتبع ذلك بقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:٧٩] ، فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته ومواده وصورته، فكذلك الثاني، فإذا كان تام العلم كامل القدرة، كيف يتعذر عليه أن يحيي العظام وهي رميم؟ ثم أكد الأمر بحجة قاهرة وبرهان ظاهر يتضمن جواباً عن سؤال آخر يقول: العظام صارت رميماً، وعادت طبيعتها باردة يابسة، والحياة لابد أن تكون مادتها وحاملها طبيعته حارة رطبة، بما يدل على أمر البعث، ففيه الدليل والجواب معاً فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:٨٠] ، فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة، الذي يخرج الشيء من ضده وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها، ولا تستعصي عليه، هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه من إحياء العظام وهي رميم.
ثم أكد هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجل الأعظم على الأيسر الأصغر، فإن كل عاقل يعلم أن من قدر على العظيم الجليل فهو على ما دونه بكثير أقدر وأقدر، فمن قدر على حمل قنطار فهو على حمل أوقية أشد اقتداراً، فقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس:٨١] ، فأخبر أن الذي أبدع السماوات والأرض على جلالتها وعظم شأنها وكبر أجسامها، وسعتها وعظيم خلقها أقدر على أن يحيي عظاماً قد صارت رميماً، فيردها إلى حالتها الأولى، كما قال في موضع آخر: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:٥٧] ، وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الأحقاف:٣٣] .
ثم أكد سبحانه ذلك وبينه ببيان آخر: وهو أنه ليس فعله بمنزلة غيره الذي يفعل بالآلات والكلفة والتعب والمشقة ولا يمكنه الاستقلال بالفعل، بل لابد معه من آلة ومعين، بل يكفي في خلقه لما يريد أن يخلقه ويكونه نفس إرادته، وقوله للمكون: كن؛ فإذا هو كائن، كما شاء وأراده، ثم ختم هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده فيتصرف فيه بفعل وقوله (وإليه ترجعون) ومن هذا قوله سبحانه: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:٣٦-٤٠] ، فاحتج سبحانه على أنه لا يتركه مهملاً عن الأمر والنهي والثواب والعقاب، وأن حكمته وقدرته تأبى ذلك أشد الإباء، كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:١١٥] ، إلى آخر السورة.
فإن من نقله من النطفة إلى العلقة، ثم إلى المضغة، ثم شق سمعه وبصره، وركب فيه الحواس والقوى والعظام والمنافع والأعصاب والرباطات التي هي أسره، وأحكمه، وأحكم خلقه غاية الإحكام، وأخرجه على هذا الشكل والصورة التي هي أتم الصور وأحسن الأشكال، كيف يعجز عن إعادته وإنشائه مرة ثانية؟ أم كيف تقتضي حكمته وعنايته به أن يتركه سدى؟ فلا يليق ذلك بحكمته، ولا تعجز عنه قدرته، فانظر إلى هذا الاحتجاج العجيب من قول وجيز، الذي لا يكون أوجز منه.
] .
هذه الآيات في آخر سورة يس احتج الله بها على بعض المشركين، روي أن الوليد بن المغيرة أو العاص بن وائل جاء ومعه عظم ميت قد بلي، وجعل يفته، وقال: أتزعم -يا محمد- أن ربك قادر على أن يعيد هذا حياً بعد أن صار فتاتاً وتراباً؟ فقال: (نعم، يميتك الله، ثم يحييك، ثم يحشرك إلى جهنم، ونزل فيه هذه الآيات، وهي قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:٧٧] ) ، فهذه هي الحجة الأولى، يذكره الله بأنه خلق من نطفة، والنطفة: ماء قذر لو ترك لحظة لفسد، فالله هو الذي أوجد الإنسان وخلقه من هذه النطفة، ثم طوره إلى أن أخرجه إنساناً سوياً، وجعله بشراً متكامل الخلق، فإذا هو يخاصم ربه ويجادله.
ثم قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:٧٨] ، وهذا المثل كونه أتى بالعظم يفته، ونسي مبدأ خلقه، نسي أن الله هو الذي أوجده من تلك النطفة إلى أن صار رجلاً، ونسي قول الله تعالى له ولغيره: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المرسلات:٢٠-٢١] ، نسي مبدأ خلقه فقال: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} ، والآيات التي بعدها في تقرير البعث وفي الرد عليه: الحجة الأولى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:٧٩] ، فإن الذي ابتدأ الخلق قادر على أن يعيده، وليس بدأ الخلق أهون من إعادته، هذه حجة قاطعة لكل خصومة؛ وذلك لأن الله هو الذي ابتدأ خلق الإنسان وأحياه في هذه الدنيا، وكذلك سائر المخلوقات، فقدر الله أنها تتوالد، وأنها تنشأ، وأنها توجد على هذه الحياة شيئاً فشيئاً، فالذي أوجده وخلقه وكونه وقدر ما يقدر عليه لا شك أنه قادر على أن يعيده كما كان، فيقول تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:٧٩] .
الحجة الثانية: قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:٧٩] ، يعني: أنه عالم بكل شيء فلا يخفى عليه شيء، فهو عالم بعدد المخلوقات، وعدد الرمل والتراب، وأبصر كل شيء فلم يحجب بصره حجاب، وسمع جهر القول وخفي الخطاب، لا يخفى عليه شيء من أمور عباده، علم عددهم قبل أن يخلقهم، وعلم آجالهم، وعلم أعمارهم، وعلم أعمالهم، وعلم أوقاتهم التي يولدون فيها، فهو بكل خلق عليم، فإذا كان عليماً فلا يليق به أن يهمل خلقه.
الحجة الثالثة: قول الله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً} [يس:٨٠] ، يقولون: هناك شجر اسمه المرخ، وشجر اسمه العفار، يعرفه أهل البوادي، إذا أرادوا أن يقدحوا ناراً قطعوا عودين أخضرين، وحزوا في أحدهما حزاً، ثم إنهم يحركونه تحريكاً جيداً فتنقدح منه النار، ثم يجعلون تلك الشررات التي تنقدح منه في خرقة، ثم بعد ذلك ينفخونها، ثم يوقدونها ناراً، وكان يغني عن الكبريت الذي نستعمله وغيره، وهو معروف عند العرب قديماً وعند البوادي إلى حد قريب، يقولون: في كل شجر نار، والله تعالى هو الذي يخرج النار من هذا العود الأخضر، النار طبيعتها حارة، وطبيعة هذا العود أنه رطب، وأنه مائي أخضر، ومع ذلك تنقدح منه هذه النار التي فيها هذه الحرارة، أليس ذلك دليلاً على أن الذي أوجد هذه الحرارة في هذا قادر على أن يعيد إلى الإنسان حياته، ولو كان تراباً؟ يعيده ويجمع أشلاءه ولو كانت متفرقة، ولو كانت رماداً أو تراباً، لا يستعصي عليه أن يعيد إليه حرارته الغريزية وحياته وطبيعته، كما لم يستعصِ عليه أن يخرج النار من ذلك الشجر الأخضر الذي توقدون منه.
الحجة الرابعة: قول الله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} [يس:٨١] ؛ وذلك لأن خلق هذه السماوات مع ارتفاعها وما فيها من الأفلاك وما فيها من النجوم السائرة والثابتة، وما فيها من الشمس والقمر وهذه الأجرام العلوية، وكذلك هذه الأرض وما فيها من الشعاب والجبال والمهاد؛ أعظم من خلق الإنسان، فإن المخلوق العظيم يدل على عظمة خالقه.
إذاً: القادر على أن يخلق مثل هذه الأشياء قادر على أن يعيد الإنسان -مع صغره ومع حقارته- كما كان.
يقول الشارح كما سمعنا: من قدر على أن يحمل قنطاراً، لم يصعب عليه أن يحمل أوقية، القنطار: هو ملء مسك الثور من الذهب أو نحوه -ملء جلد الثور-، والأوقية ملء اليد، فالذي يقدر على أن يخلق هذه المخلوقات العلوية الكبيرة لا يستعص عليه أن يوجد الإنسان.
الحجة الخامس: قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢] فالله ليس كالذي يحتاج إلى حرفة وإلى صنعة وإلى عمل وإلى مواد يجمعها، الصانع إذا أراد أن يصنع مثل هذه الطاولة، لابد أن يأتي بأعواد ولابد أن يأتي بمنشار، ولابد أن يقيس، ولابد أن يسويها بآلة إلى أن تستوي، وكذلك من يصنع مثل هذا الزجاج لابد أن يأتي بالمواد التي يصنع منها، إلى أن يكون منها ما يصنع، أما الرب تعالى فإنه لا حاجة به إلى م