[حكم إضافة الشر إلى الله عز وجل، وذكر المخالفين في ذلك]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قلت: فذلك العدم من خلقه فيه؟ قيل: هذا سؤال فاسد؛ فإن العدم كاسمه لا يفتقر إلى تعلق التكوين والإحداث به، فإن عدم الفعل ليس أمراً وجودياً حتى يضاف إلى الفاعل، بل هو شر محض، والشر ليس إلى الله سبحانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الاستفتاح: (لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك) وكذا في حديث الشفاعة يوم القيامة حين يقول له الله: (يا محمد! فيقول: لبيك وسعديك والخير بيديك والشر ليس إليك) وقد أخبر الله تعالى أن تسليط الشيطان إنما هو: {عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:١٠٠] .
فلما تولوه دون الله وأشركوا به معه عوقبوا على ذلك بتسليطه عليهم، وكانت هذه الولاية والإشراك عقوبة خلو القلب وفراغه من الإخلاص، فإلهام البر والتقوى ثمرة هذا الإخلاص ونتيجته، وإلهام الفجور عقوبة على خلوه من الإخلاص.
فإن قلت: إن كان هذا الترك أمراً وجودياً عاد السؤال جذعاً، وإن كان أمراً عدمياً فكيف يعاقب على العدم المحض؟ قيل: ليس هنا ترك هو كف النفس ومنعها عمّا تريده وتحبه، فهذا قد يقال: إنه أمر وجودي، وإنما هنا عدم وخلو من أسباب الخير، وهذا العدم هو محض خلوها مما هو أنفع شيء لها، والعقوبة على الأمر العدمي هي بفعل السيئات، لا بالعقوبات التي تناله بعد إقامة الحجة عليه بالرسل، فلله فيه عقوبتان: إحداهما: جعله مذنباً خاطئاً، وهذه عقوبة عدم إخلاصه وإنابته وإقباله على الله، وهذه العقوبة قد لا يحس بألمها ومضرتها؛ لموافقتها شهوته وإرادته، وهي في الحقيقة من أعظم العقوبات.
الثانية: العقوبات المؤلمة بعد فعله للسيئات، وقد قرن الله تعالى بين هاتين العقوبتين في قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:٤٤] فهذه العقوبة الأولى، ثم قال: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:٤٤] فهذه العقوبة الثانية.
فإن قيل: فهل كان يمكنهم أن يأتوا بالإخلاص والإنابة والمحبة له وحده من غير أن يخلق ذلك في قلوبهم ويجعلهم مخلصين له منيبين إليه محبين له؟ أم ذلك محض جعله في قلوبهم وإلقائه فيها؟ قيل: لا، بل هو محض منته وفضله، وهو من أعظم الخير الذي هو بيده، والخير كله في يده، ولا يقدر أحد أن يأخذ من الخير إلا ما أعطاه، ولا يتقي من الشر إلا ما وقاه.
فإن قيل: فإذا لم يخلق ذلك في قلوبهم ولم يوفقوا له ولا سبيل لهم إليه بأنفسهم عاد السؤال، وكان منعهم منه ظلماً، ولزمكم القول بأن العدل هو تصرف المالك في ملكه بما يشاء، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣] .
قيل: لا يكون سبحانه بمنعهم من ذلك ظالماً، وإنما يكون المانع ظالماً إذا منع غيره حقاً لذلك الغير عليه، وهذا هو الذي حرمه الرب على نفسه، وأوجب على نفسه خلافه.
وأما إذا منع غيره ما ليس بحق له -بل هو محض فضله ومنَّته عليه- لم يكن ظالماً بمنعه، فمنع الحق ظلم، ومنع الفضل والإحسان عدل، وهو سبحانه العدل في منعه، كما هو المحسن المنان بعطاءه.
فإن قيل: فإذا كان العطاء والتوفيق إحساناً ورحمة فهلا كان العمل له والغلبة، كما أن رحمته تغلب غضبه؟ قيل: المقصود في هذا المقام بيان أن هذه العقوبة المترتبة على هذا المنع، والمنع المستلزم للعقوبة ليس بظلم، بل هو محض العدل] .
هذه مناقشات لاعتراض المعتزلة الذين ينكرون قدرة الله على أفعال العباد، ويوردون هذه الشبهات ليلبسوا بها على غيرهم.
والشر لا يضاف إلى الله تعالى على أنه شر، بل كل أفعال الله تعالى خير، ولو كان عقوبات، ولو كان إهلاكاً أو انتقاماً؛ فلا يقال: إنه شر، ولا يقال: إنه ضرر، بل هو خير بالنسبة إليه سبحانه وتعالى.
وإذا تتبعنا الأدلة وجدنا أن الله تعالى لا يضيف الشر إلى نفسه، ولكنه يذكره على صيغة المبني للمجهول، كما في قول الله تعالى حكاية عن مؤمني الجن أنهم قالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:١٠] فالشر قالوا: ((أريد بمن)) ولم يقولوا: أراده الله؛ وذلك لأن الشر المحض لا ينسب إلى الله، وأما الخير فأفصحوا بأنه من الله فقالوا: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:١٠] .
فدل على أن كل ما يصدر من الله فهو خير، فالصواعق التي تنزل والأمراض التي تحدث بتقدير الله والجدب والقحط الذي يصيب الكثير من البلاد لا يقال إنه شر، بل هو خير بالنسبة إلى الله؛ وذلك لأنه قدره لعاقبة حسنة، قدره لينبه عباده على عزته وقدرته، ولينبههم على خطئهم وذنبهم، وأنه غير ظالم لهم، فلو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لم يكن ظالماً لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته أعظم من طاعاتهم، ومما يستحقونه.
إذا: ً كل ما يحدث فهو بتقدير الله، ولكن لا ينسب الشر إلى الله.
وكما ذكر في التلبية المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك) فجعل الخير كله من الله وبيده، والشر ليس إلى الله، ولذا قال: (الشر ليس إليك) ، أي: لا ينسب إلى الله، ولو كان هو الذي قدره وشاءه ولكن لا نسميه شراً بالنسبة إلى إحداث الله له، بل هو خير؛ حيث إنه سبحانه وتعالى ما أراد إلا الخير، وما أراد بعباده إلا أن ينبههم، فإن كانوا عصاة سلط عليهم قحطاً أو مرضاً فذلك خير؛ لأنه ينبههم حتى ينتبهوا لمعصيتهم، ويعلموا أن ما أصابهم فهو عقوبة لهم؛ فينتبهوا ويتوبوا.
وإن كانوا مطيعين علموا أن ذلك ابتلاء وامتحان وتنبيه لهم؛ ليكون ذلك زيادة في حسناتهم، جميع ما يحدث ويقدره الله في الكون فهو خير إذا صدر من الله تعالى.
ومعلوم أيضاً أنه سبحانه هو الذي يكون الكائنات ويقدرها، وأنه يعاقب العباد بما يستحقون، وقد يعفو عنهم، وتكون عقوباته على نوعين: عقوبة ظاهرها أنها نعمة، وهي محنة وامتحان واختبار.
وعقوبة يظهر فيها أنها عذاب وألم، والكل قد يُسمى عقوبة، ولا يكون ذلك إلا إذا خالفوا ما كلفهم به، فإذا وجه الله إليهم الأوامر وبين لهم، ولكنهم خالفوا وارتكبوا المعاصي عاقبهم بعقوبتين، كما في قول الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:٤٤] هذه نعمة ولكنها محنة؛ والمعنى: أنا فتحنا عليهم الأرزاق ويسرنا لهم الأسباب، وقويناهم، وأعطيناهم الأموال والأولاد، والأمن والرخاء، وكثرة النعم، وكثرة الخيرات، فازدهرت لهم الدنيا، وضحكت لهم حياتهم، وأعجبوا بما أصابوا وانخدعوا واغتروا، وظنوا أن ذلك كرامة، وظنوا أن ذلك منحة، وقالوا: هذا بسبب أعمالنا، وهذا ما نستحقه، وهذا كرامة لنا! فعند ذلك يطغون ويبغون، ويتكبرون ويتجبرون، ويكفرون بنعم الله، ويستعينون بها على ارتكاب المحرمات والمعاصي، وكل ذلك بتقدير من الله تعالى، ولو شاء الله لهداهم، ولكنه خلى بينهم وبين أنفسهم وأهوائهم، فاختاروا الضلال، فحقت عليهم هذه الكلمة، فعند ذلك تنزل عليهم العقوبة الثانية: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:٤٤] فأخذهم الله على حين غرة وغفلة.