السحرة والكهنة منتشرون ومتمكنون منذ زمن قديم؛ فالشارح رحمه الله في القرن الثامن يشتكي من كثرتهم، وأنهم قد أضروا بالناس بأعمالهم الشيطانية، ويحرض من يعرف إنساناً يتعاطى السحر أو يتعاطى الكهانة أن يدل عليه، وأن يخبر به، وأن ينكر فعله، أو ينبه من ينكر فعله؛ فإن هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل ومن تغيير المنكر الواجب تغييره على كل من علمه، ويستدل بقوله صلى الله عليه وسلم:(إن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت ولم تغير ضرت العامة) ، ويذكر أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ينكرون على الكهنة ويستبشعون صناعتهم، ويستشنعون أفعالهم، فهذا أبو بكر رضي الله عنه كان له غلام مملوك لم يكن بحاجة إلى خدمته، فجعله يشتغل، فكان يقول له: اذهب واحترف واجمع لنا مالاً وخراجاً، فكان يأكل من خراجه، يعني: من كسبه وكد يمينه، فجاء ذلك الغلام مرة بمال أخذه من تكهن، وأخبره بأنه خدع إنساناً بالكهانة في الجاهلية وقال: إني أعلم كذا، وإنك مصاب بكذا وكذا، فلقيه ذلك الرجل فأعطاه حلواناً، يعني: مالاً عن كهانته، وكان أبو بكر رضي الله عنه قد عرف تحريم الكهانة، وعرف أن حلوان الكاهن خبيث، فلما سمع من غلامه هذه القصة، وأن هذا المال الذي أكل منه سحت وحرام، وأنه حلوان كاهن وهو خبيث، لم يقر قراره وذلك الطعام في بطنه، بل أدخل إصبعه في حلقه فاستخرج كل ما أكله ذلك اليوم، حتى لا يكون في غذائه ولو لقمة من حرام، أو من مشتبه، ولو كان معذوراً؛ لأنه قد يقول: إثمه على من كسبه، وهو معذور لأنه قد يقول: ما شعرت حين أكلته ولا علمت أنه محرم؛ أو معذور لأنه قد يقول: إنه دفعه عن طيب نفس، ولكن لم تقبل نفسه مثل هذه التأويلات حتى استخرج ذلك الطعام، بل أخرج كل ما أكله ذلك اليوم، وهذا دليل على بعد الصحابة رضي الله عنهم عن المشتبهات وعن المحرمات، ودليل على أنهم يعرفون أن الكهنة كاذبون، وأن كسبهم حرام، وأن إقرارهم حرام؛ وذلك لأن الله تعالى كذبهم، وأخبر بأنهم يأخذون من الشياطين، فقال تعالى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}[الشعراء:٢٢١-٢٢٣] أي: يتلقون السمع من الشياطين التي تُلقي عليهم، وأكثر الشياطين تكذب عليهم، وهم يكذبون على الناس.
فإذاً: الكهنة عبدة للشياطين، وإذا كانوا يعبدون الشياطين فلا يجوز أن نقرهم؛ لأن إقرارهم تمكين لهم من عبادة غير الله، وكذلك إقرار لهم على الشرك وعلى المنكر، فمتى قدرنا فإننا نحاربهم، ونحرص على أن نقضي على قوتهم، وعلى معنوياتهم.
وإذا كانوا كثيراً في زمن المؤلف ابن أبي العز رحمه الله، فكيف بزماننا الذي هو القرن الخامس عشر، والذي استحكمت فيه غربة الإسلام إلا ما شاء الله، والذي كثرت فيه الكهنة والسحرة والشعوذة، وتمكن فيه الأشرار، وصاروا قادة وسادة يفعلون بالأبرياء ما يريدونه؟!