[إلزام الأشاعرة بأشد مما لزم المعتزلة]
قال المؤلف رحمه الله: [فإن قالوا: إنما أشار إلى حكاية ما في نفسه وعبارته، وهو المتلو المكتوب المسموع فأما أن يشير إلى ذاته فلا، فهذا صريح القول بأن القرآن مخلوق، بل هم في ذلك أكفر من المعتزلة، فإن حكاية الشيء مثله وشبهه، وهذا تصريح بأن صفات الله تعالى محكية، ولو كانت هذه التلاوة حكاية لكان الناس قد أتوا بمثل كلام الله، فأين عجزهم؟! ويكون التالي -في زعمهم- قد حكى بصوت وحرف ما ليس بصوت وحرف، وليس القرآن إلا سوراً مسورة، وآيات مسطرة، في صحف مطهرة، قال تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:١٣] ، وقال: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:٤٩] ، وقال: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس:١٣-١٤] ، ويكتب لمن قرأ بكل حرف عشر حسنات، قال صلى الله عليه وسلم: (أما إني لا أقول (الم) حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) ، وهو المحفوظ في صدور الحافظين المسموع من ألسن التالين.
قال الشيخ حافظ الدين النسفي رحمه الله -في المنار-: إن القرآن اسم للنظم والمعنى.
وكذا قال غيره من أهل الأصول، وما ينسب إلى أبي حنيفة رحمه الله أن من قرأ في الصلاة بالفارسية أجزأه فقد رجع عنه وقال: لا تجوز القراءة مع القدرة بغير العربية.
وقالوا: لو قرأ بغير العربية فإما أن يكون مجنوناً فيداوى، أو زنديقاً فيقتل؛ لأن الله تكلم به بهذه اللغة، والإعجاز حصل بنظمه ومعناه] .
كل هذا رد على هؤلاء الذين يزعمون أن كلام الله هو المعنى دون الحروف، فيقول لهم: إذا كان كذلك؛ فإذاً ليس هو كلام الله، وإنما هو كلام من أنشأه ومن نظمه هذا النظم، وهذا الذي نظمه إما أنه في زعمكم الملك الذي أنزله، أي: أنه أخذ المعنى ونظمه بهذا النظم، وإما أنه الرسول، بمعنى أنه ألقي في قلبه وفي روعه المعاني فصاغ لها عبارات باللغة التي يحسنها، فعلى هذا لا يكون هذا القرآن كلام الله، وعلى هذا يجوز أن يقرأ بأي لغة، ويجوز أن يقرأ بالمعنى، ويترك اللفظ، ويكون الأجر على المعنى لا على الحروف، وهذا خلاف ما ورد، وذلك يتبين من وجوه.
أولاً: الإعجاز الذي أعجز هذا البشر أن يأتوا بمثله ليس هو بالمعنى؛ فإن المعاني يقدرون على أن يصوغوها، فإذا فهمت -مثلاً- معاني آية الكرسي استطعت أن تصوغ لها معاني مثلها وأن تعبر عنها، كما حصل في التفاسير، فإن أهل التفاسير صاغوا معانيها بعباراتهم، فلو كان الإعجاز هو الإتيان بالمعنى لم يكن هناك إعجاز، أي أن التلاوة التي فيها أجر إنما هي تلاوة هذه الحروف، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من قرأ حرفاً من القرآن فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) ، فقد جعل هذه الحروف عين المتلو وعين كلام الله، وهي التي يكون عليها الأجر والحسنات، فلو كان المعنى هو المطلوب لأباح لنا أن نقرأ بالمعنى ونحصل على الأجر وعلى الحسنات.
ثانياً: القرآن نزل بلغة العرب، فلا يجوز أن يتعبد به بغير لغتهم، وقد روي عن أبي حنيفة أنه أجاز الصلاة باللغة الفارسية، يعني: أن تترجم الفاتحة إلى اللغة الفارسية، ثم يقرأ بها في الصلاة، ولكن أبا حنيفة قال ذلك أولاً ثم رجع عنه، ولم يوافقه على مقالته أحد من الأئمة، بل كلهم قالوا: لا تجزئ الصلاة إلا بالحروف العربية.
حتى قالوا: وكذلك في الخطب وفي الأذان وما أشبههما، لا تجوز إلا باللغة العربية، فمن صرفها إلى لغة أخرى لم يأت بالواجب، فإذا خطب بلغة أعجمية لم تجزئه خطبته، أو قرأ الفاتحة بلغة أعجمية لم تجزئه قراءته ولم تصح صلاته، أو قرأ التشهد بلغته التي ليست عربية لم يصح تشهده، أو أذن بغير اللغة العربية لم يصح أذانه، وهكذا سائر شرائع الإسلام.
فلما كان ذلك دل على أن هذه الألفاظ العربية الموجودة في المصاحف مطلوبة منا، وعلى هذا يكون لها مزية، ولماذا حصلت لها هذه المزية؟ لأنها عين كلام الله، ولو كانت عبارة أو حكاية عنه لما كان لها ميزة عن عبارة سائر الناس، فإذا كان عبارة محمد، أو عبارة جبرائيل، أو عبارة صحابي آخر لم يكن له ميزة عما نعبر به نحن، أو عما يعبر به فلان؛ لأن الجميع كله من إنشاء الإنسان لا من كلام الله، لا أنه عين كلام الله، تعالى الله عن ذلك.
فإذاً عرف بذلك أن هذا الكلام نفسه هو عين كلام الله حروفه ومعانيه.