قول الجهمية في الإيمان هو أبعد الأقوال، فهم يقولون: إن الإيمان هو المعرفة فقط، فمن عرف فهو مؤمن، وهذا القول يلزم منه أن كل من عرف ولو لم يتبع المعرفة بإيمان يصير مؤمناً كامل الإيمان عندهم، والله تعالى قد ذكر أن إبليس -وهو أكفر الكافرين- يعرف أن الله ربه، ويعرف أن هناك بعثاً، وأن هناك جزاءً، وأن هناك جنة وناراً، وقد خاطبه الله بقوله:{لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأعراف:١٨] ، فهو عارف، إذاً: فهو عند الجهمية مؤمن يستحق الوعد الذي وعد الله به المؤمنين! وكذلك فرعون قد أخبر الله أنه عارف، قال الله تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا}[النمل:١٤] يعني: آيات موسى، {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ}[النمل:١٤] ففرعون وقومه كانوا مستيقنين بها، وكذلك قول موسى:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}[الإسراء:١٠٢](علمت) أي: يا فرعون! ففرعون عندهم مؤمن كامل الإيمان، يستحق ما يستحقه أهل الإيمان الكامل.
أيضاً: كثير من الكفار -على قولهم- كانوا مؤمنين، قال الله:{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}[الأنعام:٢٦] ، قيل: إنها نزلت في أبي طالب، فقد كان يعرف أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق، وكان ينهى عن أذاه، لكن كان ينأى عن اتباعه، وقيل: نزلت في الكفار كلهم؛ لأنهم يعرفون صدقه، وكانوا يسمونه بالصادق الأمين، وبكل حال فإن أبا طالب -كما سمعنا- مصدق بأن محمداً رسول، وبأنه صادق، وقد ظهر تصديقه في هذه الأبيات: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً يقول: لولا أن يلومني زملائي وأصدقائي، ويقولون: إنك تركت دين آبائك، وجلبت على أبيك عبد المطلب وآبائك وأسلافك المسبة، لولا ذلك لسمحت به ولاتبعته، فهذا ونحوه دليل على أنه كان عارفاً، وهل نفعته هذه المعرفة؟ ما نفعته.
إذاً: الإيمان على قولهم يعم هؤلاء، فهم مؤمنون عند الجهمية! فما هو الكفر عند الجهمية؟ يقولون: الكفر هو الجهل بالله.
فيقال لهم: أنتم أجهل الناس بالله، حيث جعلتموه الوجود المحض، دون أن تجعلوا لله صفات أو تجعلوا له أسماء، فهم جحدوا أسماء الله وجحدوا صفاته، ولم يصفوه إلا بأنه موجود، قيل لهم: موجود قديم أو موجود كذا؟ فيقولون: موجود فقط، فلا شك أن هذا هو غاية الجهل، فقد شهدوا على أنفسهم بأنهم كافرون حيث جعلوا الكفر هو الجهل، وأي جهل أكبر من جهل هؤلاء الجهمية؟!