للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إحاطة الله بكل شيء لا تنافي فوقيته وعلوه]

من صفات الله أنه محيط بكل شيء وفوقه، والإحاطة بها هو الاستيلاء عليها، بمعنى: أنه محيط بالأشياء، وكلها تحت سيطرته وتصرفه، فلا شيء يتحرك إلا بإرادته، ولا يتصرف إلا بعلمه، وهو المتصرف فيها وحده، وهذا يدل على كماله وعظمته، فالذي يعتقد ذلك لا شك أنه يعظم قدر ربه في قلبه، ويصعب عليه أن يتخلف عن طاعته، أو يرتكب معصيته، أو يفعل إثماً أو جرماً، أو يبارز ربه بالعصيان؛ لأنه يستحضر عظمته وكبرياءه وجلاله وغناه عن خلقه، ثم يستحضر ضعف الخلق كلهم، وفقرهم وفاقتهم، وحاجتهم الشديدة إلى ربهم، فبعد ذلك يقول: ما أنا وما قدري حتى أظهر الغنى عن الله، وحتى أبارزه بالذنوب، وأعصي أمره وأرتكب نهيه؟! وهل أتحمل شيئاً من سخطه أو أصبر على شيء من عذابه؟ فيكون استحضاره ذلك زاجراً له عن اقتراف المآثم.

ودليل إحاطته بكل شيء قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:١٢] ونفى ذلك عن المخلوقين بقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة:٢٥٥] ، وقال: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:٢٠] ، وقال: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً} [النساء:١٢٦] فالإحاطة: هي السيطرة والاستيلاء التام، والولاية الكاملة التي لا ينقصها شيء، وهي لله وحده، فهو محيط بالأشياء كلها علويها وسفليها، وعالم بها ومتصرف فيها، ولا يخفى عليه شيء من أمرها، وذلك لأنها مخلوقة، وهو الخالق وحده.

قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [ومن المعلوم -ولله المثل الأعلى- أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة، إن شاء قبضها وأحاطت قبضته بها، وإن شاء جعلها تحته، وهو في الحالين مباين لها، عال عليها، فوقها من جميع الوجوه، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف؟! فلو شاء لقبض السماوات والأرض اليوم، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة، فإنه لا يتجدد له إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن، فكيف يستبعد العقل مع ذلك أنه يدنو سبحانه من بعض أجزاء العالم وهو على عرشه فوق سماواته أو يدني إليه من يشاء من خلقه؟ فمن نفى ذلك لم يقدره حق قدره.

وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في رؤية الرب تعالى، فقال له أبو رزين: (كيف يسعنا -يا رسول الله - وهو واحد ونحن جميع؟ فقال: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله: هذا القمر آية من آيات الله، كلكم يراه مخلياً به، والله أكبر من ذلك) ، وإذا قد تبين أنه أعظم وأكبر من كل شيء، فهذا يزيل كل إشكال، ويبطل كل خيال.

وأما كونه فوق المخلوقات، فقال تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) [الأنعام:١٨] {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:٥٠] وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال المتقدم: (والعرش فوق ذلك، والله فوق ذلك كله) .

وقد أنشد عبد الله بن رواحة شعره المذكور بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأقره على ما قال وضحك منه.

وكذا أنشده حسان بن ثابت رضي الله عنه قوله: شهدت بإذن الله أن محمداً رسول الذي فوق السماوات من عَلُ وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما له عمل من ربه متقبل وأن الذي عادى اليهود ابن مريم رسول أتى من عند ذي العرش مرسل وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم يجاهد في ذات الإله ويعدل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا أشهد) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي، وفي رواية: تغلب غضبي) رواه البخاري وغيره.

وروى ابن ماجة عن جابر يرفعه قال: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا إليه رءوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم، ثم قرأ قوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:٥٨] فينظر إليهم، وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه) .

وروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) [الحديد:٣] بقوله: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء) ] .

الكلام الأول يتعلق بإحاطة الله بالمخلوقات، وقد تقدم الاستدلال على عظمة العرش والكرسي، وصغر المخلوقات بالنسبة إليهما، وأن السماوات السبع والأرضين السبع للكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس، وما الكرسي بالنسبة إلى العرش إلا كحلقة ألقيت في أرض فلاة، فماذا تشغل الحلقة من هذه الفلاة؟! وذكر ابن كثير أحاديث عند قوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:٦٧] ، وأن هذه السماوات والأرضين صغيرة بالنسبة إلى قبضة الرب عز وجل، فهي مطويات بيمينه، والأحاديث التي فسرت ذلك فيها الدلالة على أن الله يقبض المخلوقات كما يشاء، وقد ورد في الأحاديث أنه يقبض السماوات والأرض، وأنه يهزهن ويقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ذكر ذلك ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:١٦] .

وكذلك نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما -وهو من أجل علماء الصحابة- أنه قال: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كحبة خردل في يد أحدكم) كمثل حبة خردل في يد العبد، وماذا تشغل حبة الخردل من اليد؟! معلوم أن الحبة صغيرة وحقيرة في القبضة، فقد يقبض ألفاً أو أكثر من ألف في كفه ولا يمتلئ الكف بذلك، فكيف بحبة واحدة؟ فهذه المخلوقات التي نشاهد عظمتها، ولا يعلم سعتها إلا الله تعالى، قد أخبرنا الله ورسوله بأنها سبع شداد، وأنها سبع طباق، وأن المسافات التي بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة سنة، ومتى تقطع هذه المسافة؟ وكل ذلك صغير بالنسبة إلى عظمة الرب تعالى!! فهذا ونحوه دليل على عظمته، ودليل على إحاطته بكل شيء.