للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عمق علم الصحابة وعدم تكلفهم يوجب الاهتداء بهديهم]

الصحابة رضي الله عنهم لم يتكلموا في الجوهر والعرض، ولم يتكلموا في الأعراض والأبعاض والأعضاء وما أشبه ذلك مما ابتلي به المتكلمون، ولم يتكلموا في المحدثات التي امتلأت بها كتب هؤلاء المتكلمين، وإنما تقبلوا ما جاءتهم به السنة، وما ثبت في الأحاديث، وما نص عليه القرآن، وتقبلوا ذلك كله، واستسلموا له، كما شهد لهم ابن مسعود رضي الله عنه في هذا الأثر: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات) ، ابن مسعود من الصدر الأول، مات سنة اثنين وثلاثين بعد النبي صلى الله عليه وسلم بنحو إحدى وعشرين سنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مات سنة إحدى عشرة، وابن مسعود مات سنة ثنتين وثلاثين، ومع ذلك يحث على طريقة الصحابة، ويريد بالصحابة: السابقين الأولين، كالخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان لأنهم في زمانه، وكذلك من مات من السابقين ممن مات قبله، كـ عبد الرحمن بن عوف وأبي ذر، والعباس بن عبد المطلب، ونحوهم، ولا شك أن هؤلاء هم الصحابة الذين قصدهم في قوله هذا: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة) ومن كان عالماً لا يؤمن عليه أن يضل، ولا يؤمن عليه أن يفتتن بالدنيا، أو يفتتن بالشبهات وبالدعايات المضللة، يقول: (أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً) ما أبلغه من وصف! البر: هو الصدق والإخلاص، يعني: أن قلوبهم خالصة مخلصة، وعلمهم عميق؛ لأنه علم نبوي، ولم يكونوا يتكلفون.

وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه لما جاءه رجل وقال: إن فلاناً يزعم أنه يكون قبل القيامة دخان يأخذ بمشام الناس، فعجب لذلك! حيث استدل بقوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:١٠] فقال: إن الله تعالى قال لنبيكم: {وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:٨٦] ، وإن هذا من التكلف؛ لأن هذا فسر الآية بما يراه أو بما يظنه من أن الدخان المذكور فيها يكون قرب الساعة، وبكل حال فهو ينكر على من يتكلف في تفسير الآيات بمثل هذه الاحتمالات.

فإذا نظرنا فيما روي عن الصحابة رضي الله عنهم، لم نجد في علمهم شيئاً من التكلف، بل وجدناهم يأخذون الأدلة على ظاهرها، ويفوضونها أو يعتقدون ما دلت عليه.

وقد حدث الضلال في آخر عهدهم من بعض المنكرين لبعض الأمور الغيبية، كما روي أن رجلاً انتفض عند ابن عباس لما قرأ آية في الصفات استنكاراً لها، فقال ابن عباس: ما فرق هؤلاء؟! يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه! أما الأثر المروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله!) ، فإنه دليل على أنه قد وجد في عهده من يتحدث بأشياء قد تستغرب، وقد يستنكرها بعض الجهلة، فلأجل ذلك نهى أن يحدثوا بالأشياء التي فيها شيء من الغرابة، وأمرهم أن يتحدثوا بالأشياء المعلومة كالأحكام، أي: اشغلوا أوقاتكم بالأحكام، وبأمور الطاعة، وبنوافل العبادات، وإياكم أن تشتغلوا بالأشياء التي فيها غرابة، ويستنكرها العامة وينكرونها، وإذا أنكروها وهي قطعية هلكوا، حيث إنهم كذّبوا الله ورسوله، فهذه طريقة وسيرة السلف الذين هم الصحابة ومن سار على نهجهم.