[مذاهب الناس في الأفعال]
الشارح رحمه الله ذكر أن للناس في الأفعال ثلاثة مذاهب: مذهب باطل وهو مذهب الجبرية، ويقابله مذهب باطل أيضاً، وهو مذهب نفاة قدرة الله.
ومذهب حق، وهو إثبات قدرة الله وإثبات قدرة العبد التي تناسبه.
فالأول الذي قال أهله إن العبد ليس له قدرة أصلاً، هو قول الجبرية الذين يقولون إن العبد مجبور على أفعاله، وليس له أي اختيار، بل أفعاله وحركاته بمنزلة حركات المرتعش الذي ترتعش يده ولا يقدر على إمساكه، أو بمنزلة العروق النابضة التي تتحرك ولا يقدر على إمساكها، أو حركاته بمنزلة حركات الأشجار التي تحركها الرياح، وهؤلاء الجبرية رئيسهم الجهم بن صفوان؛ فهو أول من قال إن العباد ليس لهم قدرة، وليس لهم اختيار، بل هم مجبورون على الفعل.
وهؤلاء يقولون: إن الله إذا عذب الخلق فإنه ظالم لهم؛ لأنه الذي خلق فيهم المعصية، وقالوا: كيف يخلق فيهم الذنب كالشرك والقتل والزنا والحرام وما أشبه ذلك ثم يعاقبهم على ذلك؟! فيعتبرون هذا ظلماً من الله تعالى، مع أن الله قد نفى الظلم بقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:٤٦] .
حتى قال قائلهم -كما ذكره ابن القيم في بعض كتبه-: ألقاه في البحر مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء يقولون: مثل العاصي الذي يجبر على المعصية مثل إنسان ألقي في البحر وقد أوثقت يداه وقيل له: لا يبلك الماء! وهو لا يستطيع الحركة، ومع ذلك ألقي في البحر.
ويقولا ابن القيم في ميميته: وعند مراد الله تفنى كميت وعند مراد النفس تسدي وتلحم وعند خلاف الحق تحتج بالقدر ظهيراً على الرحمن للجبر تزعم يقول: إن هؤلاء متناقضون، فإنه إذا كان المراد للنفس فإن أحدهم يسدي ويلحم ويأتي الأمور من طولها وعرضها، ولا يتوقف جهده على الشيء المراد، بل يبذل كل ما في وسعه، وأما إذا قيل له إن الله أمرك بكذا ونهاك عن كذا، فإنه يتقاعس ويتكاسل، وإذا وقع منه الذنب قال هذا مكتوب عليّ، وهذا ليس لي فيه اختيار، فيحتج بالقدر، ويحتج بالقضاء، ويزعم أنه مجبور على ذلك، وهذا هو فعل الجبرية الذين يزعمون أن العبد مجبور على فعله.
وتقدم واحد منهم إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وهو في مجلس وحوله تلامذته، فألقى عليه أبياتاً يقول في أولها: أيا علماء الدين ذمي دينكم تحير دلوه بأوضح حجة ويقول فيها: دعاني وسد الباب دوني فهل إلى دخولي سبيل بينوا لي حجتي يقول: إنما مثلي كمثل إنسان دعاني، ثم سد الباب وأقفله دوني، وضربني وقال: لماذا لا تدخل؟ وكيف أدخل وقد أوصد الباب؟ فرد عليه شيخ الإسلام بأبيات مشهورة مكتوبة مطبوعة، وقد شرحها الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، في أولها قوله: سؤالك يا هذا سؤال معاند مخاصم رب العرش باري البرية وتدعى خصوم الله يوم معادهم إلى النار طراً معشر القدرية سواء نفوه أو سعوا ليخاصموا به الله أو ماروا به للشريعة واستمر في ذكر ما يتناقضون فيه وذكر أنهم يتناقضون؛ وذلك أن أحدهم إذا لامه لائم على فعل فإنه يحتج بالقدر، ولكن لا يحتج بالقدر إذا كانت المصلحة له، فهو إذا كانت المصلحة له في طلب معيشة وفي طلب رزق، فإنه يبذل قصارى جهده، فيقال له: لماذا لا تجلس في بيتك وتترك التكسب؟ ولماذا لا تترك الأكل؟ ولماذا لا تقول: إن كان الله أراد لي حياة فإني سأحيا وإن لم آكل؟ ولماذا تلبس الثياب في الصيف لتتقي الحر، وفي الشتاء لتتقي البرد؟ ولماذا تتزوج تطلب الولد؟ ولماذا تطلب الثمر؟ وهكذا، فأنت تفعل هذه الأفعال وطلب المعيشة فكذلك نقول: لماذا لا تعمل أعمالاً صالحة تؤهلك لدخول الجنة؟! ولماذا لا تترك الأعمال التي تؤهل لدخول النار؟ إذاً: فأنت معك قدرة ومعك استطاعة على مزاولة الأعمال.
ذكروا أن سارقاً أُتي به إلى عمر رضي الله عنه، فقال: هذا شيء قدره الله، فقال عمر رضي الله عنه: (سرقت بقدر الله، ونقطع يدك بقدر الله) .
ولما توجه عمر إلى الشام ذكر له أن الشام قد وقع فيها الطاعون، فعزم على أن يرجع بمن معه إلى المدينة، فقال له أبو عبيدة: (أفراراً من قدر الله؟ فقال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله) أي: الله تعالى قدر لنا أن نرجع، فهو كتب علينا هذا، ولم يكتب علينا أننا نقدم على هذا الوباء.
واستدل أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) .
وبكل حال هذه أقوال هؤلاء الطائفة، ولهم حجج طويلة اختصرها الشارح.
أما الطائفة الثانية الذين هم المعتزلة فبلا شك أن قولهم أشد بطلاناً، ولعله يأتي ما يبينه عندما يتكلم المؤلف على أدلتهم، والله أعلم.