[موقف المبتدعة من الأدلة السمعية]
ذكر الشارح رحمه الله أن المخالفين سدوا على أنفسهم باب السمع، فالأدلة من القرآن والأدلة من السنة لما كانت مخالفة لعقولهم لم يقبلوها، الأدلة من القرآن قطعية الدلالة قطعية الثبوت، فلا يترددون في أن هذا القرآن هو كلام الله المنزل، ولا يترددون في أنه نقل نقلاً متواتراً، نقلته الأمة في شرق الأرض وفي غربها، يقرؤه هؤلاء لهؤلاء، لا يترددون في صحته ولا في ثبوته.
ولكن فيه نصوص تخالف معتقداتهم، وفيه أدلة قطعية الثبوت تخالف ما ذهبوا إليه؛ فالمعتزلة والأشعرية والجهمية والجبرية والشيعة وما أشبههم؛ لهم عقائد منحرفة، من أين أخذوا عقائدهم؟ من عقولهم، فحكموا عقولهم وجعلوها هي المرجع! قرأت لبعضهم يقول: ما علمنا صدق الرسل إلا بعقولنا، فإذا جاء عن الرسل شيء يخالف ما في عقولنا رددناه.
نقول: عجباً لكم! ما دامت قد أيقنت عقولكم بصدقهم، فما عليكم إلا أن تتقبلوا كل ما جاء عنهم، فأما أن تشهد عقولكم بصدقهم، ثم تقولون: نأخذ من أقوالهم ما يوافق عقولنا، ونرد ما يخالف عقولنا، فما كنتم بمصدقين ولا بصادقين في الاتباع.
كذلك هم يقولون: الآيات القرآنية ثابتة يقينية قطعية الثبوت؛ ولكن ليست بقطعية الدلالة، فدلالتها غير واضحة.
فأخذوا يسلطون عليها التحريف، وسموا هذا التحريف تأويلاً، وبالأخص فيما يتعلق بالصفات وبالأسماء، سلطوا عليها التأويل، وهو في الحقيقة تحريف.
مثلاً: الأشعرية أولوا كثيراً من آيات الصفات: كآيات المحبة، وآيات الرحمة، وآيات الغضب والرضا.
وكذلك الصفات الذاتية: أولوا صفة الوجه، وصفة اليدين.
وأولوا الصفات الفعلية: كصفة العلو، وصفة الاستواء.
ما كذبوها لكن أولوا أدلتها، ثم أثبتوا بعض الصفات: كصفة الكلام، مع أن قولهم في الكلام غير واضح كما تقدم، وأثبتوا الرؤية في الآخرة ولكن لم يثبتوها كما ينبغي، وأثبتوا صفة الإرادة وصفة السمع والبصر إلى آخرها.
فجاءت الجهمية والمعتزلة وقالوا: نحن نفعل كما فعلتم، أنتم أولتم آيات المحبة والرحمة والغضب والرضا، لماذا خصصتم هذه بالتأويل؟! نحن كذلك نتأول آيات القدرة، وآيات العلم، وآيات السمع والبصر، وآيات الكلام، وآيات الحياة وما أشبهها، فقدرتكم على التأويل ليست أقل من قدرتنا ولا نحن أضعف منكم، فدخلوا من باب التأويل، فسدوا على أنفسهم أخذ الأدلة من القرآن.
قالوا: إن الآيات قطعية الثبوت، ولكنها ليست قطعية الدلالة، بل هي محتملة للتأويل، فأولوها وحرفوها، فصاروا لا يستدلون بآيات القرآن على هذا النوع.
جاءتهم السنة، والأحاديث النبوية المنقولة بالأسانيد الصحيحة، فقالوا: نقسمها قسمين: متواتر، وآحاد.
فأما المتواتر: فنجعله كالقرآن قطعي الثبوت، ولكنه ظني الدلالة، فدلالته ضعيفة وغير واضحة، فنسلط عليه التأويلات التي سلطناها على الآيات فنستريح منه.
أما القسم الثاني: الذي هو الأحاديث الآحادية، ويسمونها أخبار الآحاد، فهذه يردونها كلها، ولا يقبلونها في العقائد، ويقولون: إنها ظنية الثبوت، مع كونها ظنية الدلالة، وإذا كانت قطعية الدلالة فإنها ظنية الثبوت، فلا تفيد إلا الظن، والظن أكذب الحديث، فلا نقبلها، لأن الله قد نهانا عن الظن في قوله: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:١٢] ، وفي قوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم:٢٣] ، {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم:٢٨] فالأحاديث ولو كانت في البخاري وفي مسلم، وفي السنن، وفي المسانيد، ولو رواها من رواها؛ فهي ظنية، لا تفيد إلا الظن؛ فسدوا على أنفسهم هذا الباب.
ناقشهم العلماء كـ ابن القيم رحمه الله، وبين أن قولهم هذا خطأ، وأن الواجب قبولها، وأنها قطعية الثبوت، ولو كانت آحاداً، فهي تفيد اليقين، والناس يضطرون إلى العمل بها، فكما يعملون بها في الفروع فكذلك يعتقدونها في الأصول، وكما يعملون بها في الواقع فكذلك يصدقونها في الواقع، والكلام عليها طويل.
قد ناقش أدلتهم العلماء، وأول من أثار الكلام فيها الإمام الشافعي في رسالته التي تعرف بـ (الرسالة في أصول الفقه) ، وكذلك الإمام البخاري في آخر صحيحه قال: كتاب أخبار الآحاد.
وبين أدلتها والعمل بها في الفروع وفي الأصول.
وتكلم عليها ابن القيم في كتابه (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) ، وكسر ما يتعلق به الجهمية من رد هذه الأخبار، وبين أنها تفيد العلم القطعي، وأنها ليست ظنية الثبوت كما يقولون، وعلى هذا تصير دلالتها واضحة، ولو ردها من ردها منهم.
فمثلاً: أحاديث الشفاعة متكاثرة متواترة، وإن كانت أفرادها آحاداً، ولكن مجيئها من طرق وعن عدد من الصحابة يثبتها ويوضحها، ولم تقبل ذلك المعتزلة الذين ينكرون شفاعة الشافعين، وكذلك الخوارج الذين ينكرون شفاعة الشافعين وإخراج العصاة من النار، فيقال لهم: أحاديث الشفاعة قطعية؛ لكثرتها، ولكنهم يردونها.
مثلاً: أحاديث رؤية المؤمنين لربهم في الجنة، مروية عن عدد كبير من الصحابة بروايات قوية ثابتة، ليس فيها توقف، وليس فيها تردد، فهي متواترة في المعنى، وإن لم تكن متواترة في اللفظ، ومع ذلك يردونها، ويقولون: إنها لا تزال آحاداً ولم تخرج عن خبر الواحد.
والحاصل: أن عقيدة أهل السنة أن الدلالة السمعية هي الأصل وهي المرجع، فكما أننا صدقنا بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا نكون متبعين له حق الاتباع إلا إذا تقبلنا كل ما بلّغه من الشريعة، فهو الذي بلغ القرآن فنعمل به في الأصول والفروع، وهو الذي علمنا، وبين لنا القرآن بفعله وبقوله، فلابد أن نعتقد ذلك، وهو الذي أخبرنا عن الأولين، وهو الذي أخبرنا عن الآخرين، وهو الذي أخبرنا عن الدنيا، وهو الذي أخبرنا عما يكون في الآخرة، وكل ذلك من شريعته وسنته، ولا نكون مصدقين له إلا إذا صدقناه بكل دقيق وجليل.