للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم التنجيم وتعلمه]

قال المصنف رحمنا الله وإياه: [وصناعة التنجيم التي مضمونها الأحكام والتأثير -وهو: الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية أو التمزيج بين القوى الفلكية الأرضية- صناعة محرمة بالكتاب والسنة، بل هي محرمة على لسان جميع المرسلين قال تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:٦٩] ، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوت} [النساء:٥١] .

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره: الجبت السحر.

وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان لـ أبي بكر غلام يأكل من خراجه، فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري مم هذا؟ قال: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته، فلقيني، فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه) .

والواجب على ولي الأمر وكل قادر أن يسعى في إزالة هؤلاء المنجمين والكهان والعرافين، وأصحاب الضرب بالرمل والحصى، والقرع والفالات، ومنعهم من الجلوس في الحوانيت والطرقات، أو يدخلوا على الناس في منازلهم لذلك، ويكفي من يعلم تحريم ذلك ولا يسعى في إزالته -مع قدرته على ذلك- قوله تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:٧٩] ، وهؤلاء الملاعين يقولون الإثم، ويأكلون السحت بإجماع المسلمين.

وثبت في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم برواية الصديق رضي الله عنه أنه قال: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) ] .

التنجيم من الأعمال الشيطانية، وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، بمعنى أنه يقول: طلوع النجم الفلاني سبب لحدوث رياح، وسبب لحدوث غرق، أو لجدب أو لخصب، أو لوباء أو مرض، أو إذا غاب النجم الفلاني حدث في البلدة الفلانية فيضان أو غرق أو زلزال أو ما أشبه ذلك، وهذا فعل كثير من المنجمين، ويغلب عليهم أنهم شبه السحرة؛ وذلك لأن النجوم مسخرة مسيرة بأمر الله، ليست دليلاً على شيء مما يقولون، روى البخاري رحمه الله عن قتادة قال: (خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن ادعى فيها غير ذلك فقد أخطأ، وأضاع نصيبه من الدنيا، وتكلف ما لا علم له به) ، يرد قتادة على المنجمين الذين يستدلون بطلوع النجوم على الحوادث التي تحدث في الأرض من العاهات والمصائب، ومن الأمطار والخيرات، ومن العقوبات ونحوها، وما ذاك ألا أن النجوم لا تحدث شيئاً بنفسها، بل الله تعالى جعلها مسخرة كما قال الله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} [النحل:١٢] ، وقال تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:١٦] أي: يقتدون في طرقهم، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام:٩٧] (لتهتدوا) يعني: أنكم تستدلون بها على الجهة التي تريدونها، وتعرفون أي جهة تقصدونها، فجعلها الله علامات ليهتدى بها، كما جعلها زينة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:٥] أي: بهذه النجوم، وقال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:٦] والكواكب التي في هذه السماء هي زينة لها، فإذا كنت في ليلة مظلمة ونظرت إلى السماء ترى نجومها تزهر في كل جانب، كالسرج تضيء، فهي زينة للسماء.

كذلك أيضاً أخبر الله تعالى بأنها رجوم ترجم بها الشياطين عن استراق السمع، كما قال تعالى: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر:١٨] والشهاب: هو هذا الذي يرمى به في الليلة الظلماء، فإذا أبصرته منقضاً فقد رمي به شيطان أو مسترق للسمع، وقال تعالى عن الجن: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:٩] ، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:٥] أي: يرجمون بها، فهذه هي الحكمة في وجود هذه النجوم، فأما الذين يدعون فيها أنها تدل على وجود خير أو زواله، أو تدل على حدث أو أمر مستقبل أو نحو ذلك، فإن هذا من التكلف.

والنجوم يعرف بها مواقيت الشتاء والصيف، والغراس والزروع ونحو ذلك؛ وذلك لأن الله تعالى قدر لها مواقيت، فهناك نجوم تطلع في الشتاء، فإذا رآها الناس عرفوا أن هذا وقت زراعة البر ونحوه، ونجوم تطلع في الصيف، فإذا رأوها عرفوا أن هذا وقت يبذر فيه كذا وكذا، ويغرس فيه كذا وكذا، أو يعرفون بها دخول الشتاء أو انسلاخه، أو دخول البرد وإقباله أو انتهاءه، أو دخول الحر أو إقباله أو نحو ذلك، فتعلم هذا لا بأس به؛ لأنها مواقيت، كما أن الليل والنهار مواقيت، وكما أن الأشهر والأهلة مواقيت، فكذلك طلوع النجوم والبروج التي جعلها الله في السماء، قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج:١] ، وقال: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الحجر:١٦] ، وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان:٦١] ، فهذه البروج التي هي منازل الشمس، وهذه الأنواء أو النجوم التي هي منازل القمر كما في قول الله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس:٣٩] أي: ينزل في كل ليلة منزلة؛ لا شك أنها خلق الله تعالى، فتعلم منازل القمر وتعلم منازل الشمس ومعرفة أحوال كل منهما لا يدخل في التنجيم المحرم، إنما التنجيم المحرم هو أن يستدل بطلوع النجم الفلاني على أنه سوف يحدث كذا وكذا من الآفات، أو ما أشبه ذلك، فهذا من التدخل في علم الغيب، والله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:٢٦-٢٧] فلا يدخل في ذلك الكهنة ونحوهم.