للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أمثلة لبعض الأدلة التي حملها العلماء على محامل غير الكفر]

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) ، هل كل من تقاتلوا لفتنة أو لخلافات سياسية يصيرون كفاراً؟ لا يكونون كذلك، فقد تقاتل الصحابة في عهد علي ومعاوية، ولم نحكم بكفر هؤلاء ولا هؤلاء، بل نقول: تلك فتن قدرها الله تعالى، وكل منهم له مقصد وله تأويل، ولم يكونوا كفاراً، وكل من قتل في هذه الفتنة تحت مشيئة الله.

كذلك الذين تقاتلوا في وقعة الجمل لم يقل أحد بأنهم كفار، ما عدا المعتزلة ونحوهم، بل قتل فيها من الصحابة من قتل كـ الزبير وطلحة وغيرهما، ولا شك أنها فتن، ولا نقول: إنهم وصلوا إلى مرتبة الكفر -والعياذ بالله- بل ننزههم عن ذلك.

إذاً: قوله: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) نجريه على ظاهره، ونعتقد أن القتال بنوع من التأويل لا يصل إلى الكفر، ونقول: لعله قصد الزجر والتحذير من قتال المسلمين بعضهم لبعض.

وكذلك قوله: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) نقول: هذا من أحاديث الوعيد، أطلق عليه كفراً وإن لم يكن مخرجاً من الملة من باب الزجر، ومن باب التحذير عن قتل المسلم والاستهانة به.

ومثل ذلك الآيات التي فيها وعيد شديد على بعض الذنوب، مثلاً: توعد الله على أكل الربا بقوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} [البقرة:٢٧٥] معلوم أنهم وإن دخلوها بذنوبهم فإنهم تحت مشيئة الله، وكذلك قال في القتل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:٩٣] عقيدة أهل السنة: أنه مسلم لا يخرج من الملة، لكن هذا من باب الوعيد، وكثير منهم يقولون: ذلك جزاؤه إن جازاه.

وكذلك قوله تعالى في الفرار من الزحف: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} [الأنفال:١٦] ، فهذا أيضاً نص فيه وعيد، فأهل السنة يقولون: هو وإن دخلها لا يخلد فيها أو قد يعفو الله عنه فلا يدخلها.

وكذلك القذف، يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور:٢٣-٢٥] هذه الآيات من نصوص الوعيد أيضاً، مع أنها كلمة قد يكون فيها خطر وقد لا يكون، ومع ذلك توعد الله عليها بهذا الوعيد.

وهكذا الوعيد في الأحاديث التي سمعنا في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد) لا شك أن هذا أيضاً فيه تهديد وتخويف شديد على هذه الأعمال التي هي من كبائر الذنوب.

وقوله: (وهو مؤمن) أي: ليس يفعلها وهو كامل الإيمان؛ فإن إيمانه يزجره عنها، ويحذره عن اقترافها، لكن هو ناقص الإيمان، وقال بعضهم: ينزع منه الإيمان، ويكون عليه كالظلة، ثم إذا انتهى رجع إليه، ولكن لا يرجع كاملاً.

وهكذا حديث النفاق في قوله: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً: إذا حدث كذب) إلى آخره، لا نقول: إنها تخرج من الملة لمجرد كذبة أو خيانة، ولكنها من نصوص الوعيد.

وقد أثبت الله عز وجل الإيمان بين المتقاتلين الذين يتقاتلون لضغائن وعداوات في الآيات التي سمعنا، يقول الله في القاتل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:١٧٨] سماه: أخاً مع كونه قاتلاً، وكذلك في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:١٠] سماهم: إخوة مع كونهم يتقاتلون، ولكنه قتال بغي، فالمخطئون منهم بغاة.

ومعلوم أنهم لو كانوا كفاراً لحبطت أعمالهم، ولم يبق لهم حسنات، فإن الكفر يحبط الأعمال، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:٦٥] إذا حبط عملك فلا تكتب لك حسنة، الكفار ما تكتب لهم حسنات، ولا يثبت لهم شيء من الأعمال الصالحة، بل أعمالهم تبطل، يقول الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:٢٣] فلو كانوا كفاراً ما كان لهم حسنات، بل إما أن يجازوا بها في الدنيا كما في قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:٢٠] ، وإما أن يبطلها كفرهم وشركهم، يقول تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:٨٨] ، ويقول تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة:٢١٧] حبطت أي: بطلت، ومثل الله تعالى أعمالهم بأنها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لا يبقى منها شيء، فلو كانوا كفاراً ما بقي لهم أعمال صالحة، ولا حسنات يؤخذ منها للمظلومين.

وقد سمعنا أنه يكون لهم حسنات في هذه الأحاديث، هذا الذي يأتي وقد قتل هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، وظلم هذا، وشتم هذا، فمع ذلك يؤخذ من حسناته، أليس ذلك دليل على أنها باقية؟ إذاً: فهو لم يصل إلى درجة الكفر.

فهذا دليل على أن أعمالهم لا توصلهم إلى الإخراج من الملة، وعلى هذا ماذا نسميهم؟ نسميهم: عصاة، ونسميهم: فسقة، ونسميهم: أهل كبائر، ونسميهم: ناقصي الإيمان غير كاملي الإيمان، هكذا نسميهم.

هذا قولنا في أهل المعاصي، أما الشرك والكفر فمعلوم أنه يصير كفراً مخرجاً من الملة، وأن الشرك لا يغفر حتى ولو كان صغيراً، ومن الشرك الأصغر: الحلف بغير الله، فقوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) المراد به: الشرك الأصغر؛ وذلك لأن الحلف بغير الله فيه إشراك بنوع تعظيم لذلك المخلوق، وتخصيصه بالحلف به حتى يكون شريكاً لله، والتعظيم حق الله، فالحالف قد عظم الذي حلف به، فمن حلف بالله فقد عظم الله، ومن حلف بالمخلوق فقد عظم المخلوق، فيكون تعظيمه شركاً، ولكنه من الأصغر، ولا يصل إلى الشرك الأكبر.