أما عقيدة الجبرية: فهم الذين يجعلون لله الفعل لما يريد، فيقولون: يجوز لله أن يهلك المتقين، ويجوز له أن يعذب المؤمنين، ويجوز عندهم أن يثيب الكفار، وأن يرفع درجاتهم، يجعلهم في أعلى عليين وهم كفار فجار خارجون عن الطاعة، ويجوز أن يعذب الأتقياء المؤمنين الذين ما عصوه طرفة عين، وأن يجعلهم في أسفل سافلين! هذا قول المجبرة، ويقولون: إنهم ليس لهم اختيار، وليس لهم أفعال، بل الفعل فعله، والقول قوله، ويستدلون بمثل قوله تعالى:{لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}[الأنبياء:٢٣] ، وعلى قولهم تكون الخليقة ليس فيها عدل.
نقول: إن الله تعالى أعدل من أن يضيع خلقه، ومن الأدلة على نقيض قولهم: أولاً: الأدلة على أنه تعالى ما خلق الخلق عبثاً، كقول تعالى:{أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}[القيامة:٣٦] أي: مهملاً لا يؤمر ولا ينهى، وهذا حسبان باطل! وقوله تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون:١١٥] ، أي: قد حسبتم ذلك، ولكنكم أخطأتم في هذا الحسبان، فما كان ربكم ليهملكم ولا ليترككم مهملين عبثاً.
وكقوله تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}[ص:٢٧] دل على أن من اعتقد أنه خلقهم بغير حكمة، وإنما خلقهم هملاً وسدى، أنه من الكافرين الضالين.
ومرت بنا الأدلة التي تنفي التسوية بين أهل الخير وأهل الشر، مثل قوله تعالى:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}[ص:٢٨] أي: لا نجعلهم سواء، بل تأبى حكمة الله أن يجعل المتقين كالفجار، وتأبى أن يجعل المؤمنين كالمفسدين في الأرض، بل لابد أن يميز بينهم.
وكذلك قوله تعالى:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}[القلم:٣٥] ؟ لا يجوز، وهذا خلاف حكمة الله، أن يسوي بين المسلم وبين المجرم، فالمسلم له الثواب، والمجرم يستحق العقاب.
ومثله قول الله تعالى:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[الجاثية:٢١] ، هل حسبوا ذلك؟ فهذا حسبان باطل! كيف يعتقدون ويحسبون أن نجعلهم -وهم قد اجترحوا السيئات- أن نجعلهم مثل أهل الحسنات؟! ومثل أهل الأعمال الصالحة؟! لقد أخطئوا في هذا الحسبان.
هذا كله من مقتضى قول الأشاعرة أو المجبرة الذين يجعلون لله التسوية، ويقولون: يجوز أن يسوي بين الفاجر وبين المؤمن، فلذلك رد عليهم بهذه الآيات، وأصرحها آية سورة (ص) ، وهو قوله:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}[ص:٢٧-٢٨] أي: لا نجعلهم، بل لابد أن نميز هؤلاء، فالله تعالى خلق هؤلاء وميزهم، وهؤلاء وحكم عليهم بالشقاء وهؤلاء يستحقون النصر والتمكين في الدنيا وهؤلاء يستحقون الخذلان والعذاب في الدنيا، وفي الآخرة فريق في الجنة وفريق في السعير.