[الكلام على المفاضلة بين محمد ويونس عليهما السلام]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما ما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تفضلوني على يونس) وأن بعض الشيوخ قال: لا يفسر لهم هذا الحديث حتى يعطى مالاً جزيلاً، فلما أعطوه فسره بأن قرب يونس من الله وهو في بطن الحوت، كقربي من الله ليلة المعراج، وعدوا هذا تفسيراً عظيماً.
وهذا يدل على جهلهم بكلام الله وبكلام رسوله لفظاً ومعنى، فإن هذا الحديث بهذا اللفظ لم يروه أحد من أهل الكتب التي يعتمد عليها، وإنما اللفظ الذي في الصحيح: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) ، وفي رواية: (من قال: إني خير من يونس بن متى فقد كذب) ، وهذا اللفظ يدل على العموم، أي: لا ينبغي لأحد أن يفضل نفسه على يونس بن متى، وليس فيه نهي المسلمين أن يفضلوا محمداً على يونس؛ وذلك لأن الله تعالى قد أخبر عنه أنه التقمه الحوت وهو مليم، أي: فاعل ما يلام عليه.
وقال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:٨٧] .
فقد يقع في نفس بعض الناس أنه أكمل من يونس، فلا يحتاج إلى هذا المقام؛ إذ لا يفعل ما يلام عليه، ومن ظن هذا فقد كذب، بل كل عبد من عباد الله يقول ما قال يونس: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:٨٧] ، كما قال أول الأنبياء وآخرهم، فأولهم آدم قد قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:٢٣] .
وآخرهم وأفضلهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح حديث الاستفتاح من رواية علي بن أبي طالب وغيره بعد قوله: (وجهت وجهي) إلى آخره قال: (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، لا يغفر الذنوب إلا أنت) إلى آخر الحديث.
وكذا قال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص:١٦] ، وأيضاً فيونس صلى الله عليه وسلم لما قيل فيه: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:٤٨] فنُهي نبينا صلى الله عليه وسلم عن التشبه به، وأمره بالتشبه بأولي العزم؛ حيث قيل له: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف:٣٥] ، فقد يقول من يقول: أنا خير منه، وليس للأفضل أن يفتخر على من دونه، فكيف إذا لم يكن أفضل؛ فإن الله لا يحب كل مختال فخور.
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أوحي إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد) ، فالله تعالى نهى أن يفخر على عموم المؤمنين، فكيف على نبي كريم؟! فلهذا قال: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) ، فهذا نهي عام لكل أحد أن يتفضل ويفتخر على يونس.
وقوله: (من قال: إني خير من يونس بن متى فقد كذب) فإنه لو قدر أنه كان أفضل فهذا الكلام يصير نقصاً، فيكون كاذباً، وهذا لا يقوله نبي كريم، بل هو تقدير مطلق، أي: من قال هذا فهو كاذب وإن كان لا يقوله نبي كما قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:٦٥] ، وإن كان صلى الله عليه وسلم معصوماً من الشرك، لكن الوعد والوعيد لبيان مقادير الأعمال.
وإنما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيد ولد آدم لأنا لا يمكننا أن نعلم ذلك إلا بخبره؛ إذ لا نبي بعده يخبرنا بعظيم قدره عند الله، كما أخبرنا هو بفضائل الأنبياء قبله صلّى الله عليهم وسلم أجمعين، ولهذا أتبعه بقوله: (ولا فخر) كما جاء في رواية، وهل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر: إن مقام الذي أسري به إلى ربه وهو مقرب معظم مكرم كمقام الذي ألقي في بطن الحوت وهو مليم؟! وأين المعظم المقرب من الممتحن المؤدب؟ فهذا في غاية التقريب، وهذا في غاية التأديب، فانظر إلى هذا الاستدلال؛ لأنه بهذا المعنى المحرف اللفظ لم يقله الرسول، وهل يقاوم هذا الدليل على نفي علو الله تعالى عن خلقه الأدلة الصحيحة الصريحة القطعية على علو الله تعالى على خلقه التي تزيد على ألف دليل، كما يأتي الإشارة إليها عند قول الشيخ رحمه الله: (محيط بكل شيء وفوقه) إن شاء الله تعالى] .
في هذا الشرح الطويل رد على بعض علماء الأشاعرة، وهو الجويني، ذكروا أنه استدل بقوله في الحديث: (لا تفضلوني على يونس) استدل به على مسألة نفي العلو، أن الله ليس فوق عرشه وليس فوق عباده، وفسر ذلك بأن يونس في وسط البحر ومحمد فوق السموات السبع، وكلاهما بالنسبة إلى الله سواء، يعني: كلاهما في القرب منه سواء، فالذي في لجة البحر والذي فوق سبع سماوات كلاهما في القرب من الله سواء، استدل الجويني بهذا على أنه ليس الرب تعالى فوق العرش ولا فوق السموات، كقولهم: إن الله في كل مكان -تعالى الله عن قولهم-، ورد عليهم الشارح بما سبق، وبين أن هذه مقالة شنيعة من وجوه: أولاً: أن الحديث لم يثبت بهذا اللفظ: (لا تفضلوني على يونس بن متى) ، وإنما الذي ثبت قوله: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) .
وسبب الحديث أنه قد يقول رجل: أنا خير من يونس، فيونس ذهب مغاضباً وظن ألن يُقدر عليه، ويونس نبذ بالعراء وهو مذموم، ويونس التقمه الحوت، فأنا خير منه إذا ما فعلت هذه الأفعال، فقد يقول ذلك بعض الناس، فنهاهم وقال: لا تقولوا؛ فإن يونس نبي من أنبياء الله أجرى الله على يديه هذه الآيات وهذه المعجزات؛ حيث إنه التقمه الحوت ولم يمت في بطن الحوت، ولبث في بطنه مدة ولم يمت، وكذلك أمر الله الحوت أن ينبذه على ساحل البحر، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين، وأرسله إلى قومه وهم مائة ألف أو يزيدون فآمنوا، فله فضائل، ولو أنه قد اعترف بالظلم، نقول: هذا الظلم لا ينقصه، بل نبينا عليه السلام قد اعترف بالظلم، وكذلك أبوه آدم قد اعترف بقوله: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا} [الأعراف:٢٣] إلى آخره، فلا ينبغي أن يغتر بهذه اللفظة المنقولة عن هذا الرجل الذي هو الجويني، ذكروا أنه قال: في هذه الآية دليل على أن الله ليس فوق العرش في هذا الحديث، ولا أفسره حتى تجمعوا لي مالاً، فجمعوا له أموالاً وأعطوه إياها، فلما فسرها لهم هذا التفسير أعجبوا به غاية الإعجاب، وهو تفسير بعيد عن الصواب.