[حكم قراءة القرآن عند القبور]
أما المسألة الثانية وهي: القراءة عند القبور: فهذه المسألة فيها ثلاث روايات عن الإمام أحمد: رواية: أنه يجوز وقت الدفن فقط، ورواية: أنه يجوز مطلقاً، ورواية: أنه لا يجوز مطلقاً.
والأرجح: أنه لا يجوز قصد القبور للدعاء والقراءة عندها، كما لا يجوز أن تقصد للصلاة عندها؛ فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تتخذ القبور مساجد: (ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد) .
وثبت أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في المقبرة في أحاديث كثيرة، ولا شك أن العلة في ذلك مخافة الغلو، أو اعتقاد أن الذي يدعو عند القبر، أو يصلي عند القبر، أو يقرأ عند القبر، يعظم أجره، وأن أهل القبور يتسببون في رفع عمله وفي مضاعفة عمله وفي قبوله، ويكون ذلك وسيلة وذريعة إلى الاعتقاد في أصحاب القبور، ومعلوم أن الاعتقاد فيهم أنهم ينفعون، ويشفعون، ويدفعون، ويرفعون الأعمال الصالحة، ونحو ذلك، اعتقاد في مخلوق قد انقطع عمله، فلا يملك شيئاً لنفسه، فكيف يملك نفعاً لغيره، فيكون ذلك من وسائل الشرك.
وهذا هو الواقع، فإن الذين يعظمون القبور، ويصلون عندها، ويطوفون بها، ويعكفون حولها، ويقرءون عندها، كانت نهايتهم أن عبدوا تلك القبور، حيث خيل إليهم أن أصحابها من الأولياء، وكان أول ما عملوه أنهم ترددوا إلى ذلك القبر لمجرد الزيارة، ثم بعد ذلك ظنوا أن الأعمال عنده أفضل منها في غير ذلك المكان، فصاروا يفضلون الصلاة عند القبر على الصلاة في المسجد، ويفضلون القراءة عند القبور على القراءة في المسجد، ويفضلون الدعاء عند القبور على الدعاء في المساجد، ثم اعتقدوا بعد ذلك أن للأموات تأثيراً، وأنهم يرفعون الأعمال أو يضاعفونها! ثم زاد الأمر إلى أن صاروا ينادون الميت ويهتفون باسمه، فيقولون مثلاً: يا عيدروس يا عبد القادر أو يا جيلاني أو يا نقشبندي أو يا تيجاني أو يا زيد أو يا يوسف أو يا تاج أو ما أشبه ذلك من الأسماء التي كانوا في البداية ينتابونها ثم اعتقدوا فيها.
إذاً: فالصواب هو القول الأول، وهو المنع مطلقاً من قصد القبور للقراءة عندها، ولعل الدليل عليه: أولاً: أنه قول الجمهور، فهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد في الرواية المشهورة عنه، وكذا عند أصحابه، ورجحها المحققون كـ ابن تيمية وغيره، فلا تجوز القراءة عند القبور لأي سبب، وبأي نية وبأي معتقد؛ مخافة أن تكون وسيلة إلى دعاء الأموات وإلى الاعتقاد فيهم.
وأما ما نقل عن ابن عمر أنه أمر بأن تقرأ عنده فواتح سورة البقرة وخواتيمها، فقد تكون الرواية عنه غير صحيحة ولا ثابتة، حيث إنها لم تشتهر، ولم يشتهر العمل بها.
وأيضاً: فإنه أراد أن يكون ذلك في حال الدفن وأن يكون ذلك بمنزلة الدعاء، فإن الدعاء للميت مشروع، والدعاء للميت عند قبره مشروع كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مات الميت ودفنه قام عند قبره وقال: (اسألوا الله لأخيكم التثبيت فإنه الآن يسأل) ، فيكون ذلك من باب الدعاء له؛ وذلك لأن هذه الآيات فيها دعاء، مثل قوله: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:٢٨٥] ، وقوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه} [البقرة:٢٨٦] إلى آخرها، فكأنه أراد: أنكم تدعون بها وتقرءونها وتجعلونها دعاءً لي.
فإذاً: لا يكون فيها دلالة على قصد القبر للدعاء عنده، سواء وقت الدفن أو بعد الدفن، وسواء اعتقد أنه ينتفع بتلك القراءة أو أن القارئ ينتفع بها.
والقول بأنه ينتفع بها فيه نظر؛ وذلك لأنه لو كان مباحاً لفعله الصحابة.
وأيضا: فإن القراءة في المساجد وإهداء ثوابها له أكثر أجراً من القراءة عند القبور، فإن المقابر منهي عن الصلاة فيها، والمساجد مأمور بالصلاة فيها، فالدعاء في المساجد أفضل من الدعاء عند القبور، والصلاة في المساجد أفضل من الصلاة عند القبور، وكذلك القراءة في المساجد أفضل منها عند القبور.
فعرف بذلك أن القول الصواب هو قول الجمهور؛ وهو أنه لا يقصد القبر للقراءة عنده، بل إذا أرد أن يهدي للميت قراءة أو ذكراً قرأها عند أهله أو في بيته أو نحو ذلك، فأما أن يقصد القبر ويتحراه فالأصل أن هذا لم يكن مشروعاً فلا يكون جائزاً، والإنسان عليه أن يتبع الدليل، وعليه أن يأخذ بقول جماهير الأمة ويترك الأقوال الشاذة، ولو رويت عن بعض العلماء، والذين رويت عنهم نحسن الظن بهم ونقول: أولاً: هم مجتهدون، وليس كل مجتهد بمصيب.
وثانياً: أنهم ولو كانوا عندهم شيء من الاجتهاد ونحوه فإنهم عرضة للخطأ.
وثالثاً: لم يكن عندهم من الاعتقاد ما عند من بعدهم، بل هم مأمونون أن يقع فيهم هذا الخطأ، والدليل على ذلك: أنهم لم يقع منهم الغلو الذي وقع من المتأخرين، كما حدث في القرن الثامن وما بعده إلى القرن الثاني عشر في هذه البلاد، بل وإلى هذا القرن في كثير من البلاد حيث زاد غلوهم في القبور حتى دعوها من دون الله، فأصبحوا يشركون بالله، ويجعلون تلك القبور آلهة مع الله، وسبب ذلك تساهل علمائهم بقصدهم لتلك القبور فاقتدى بهم السفهاء، واعتقدوا أن صاحب القبر له تأثير، فأصبحت وسيلة من وسائل الشرك، ثم أصبحت شركاً صريحاً.