[عقيدة الجبرية في أفعال العبد بأنواعها والرد عليهم]
فالمجبرة يقولون: العبد مجبور على فعله، ليس له أية فعل، ولا ينسب إليه بل حركته كحركة المرتعش.
بعض الناس مثلاً عند الكبر يكون غير قادر على إمساك يده، فترى يده تضطرب وتتحرك بدون اختياره، إلا أن يرفعها ويخفضها، لكن إذا وقف ومدها رأيتها ترتعد، هذا هو الارتعاش.
فالمجبرة يزعمون أن العباد كلهم ليس لهم أدنى قدرة ولا أدنى حركة، وإنما حركاتهم وركوعهم وسجودهم وكسبهم وعطاؤهم ومنعهم، وصلاتهم وصومهم، وحجهم وعمرتهم، وطوافهم وسعيهم، وجهادهم ونفقاتهم، كلها ليست اختيارية بل قهرية! وكذلك المعاصي يعتبرونها قهرية، فهم يعذرون من زنى، ومن سرق، ومن قتل، ومن شرب الخمر، ومن نهب، ومن سلب؛ لأنهم في زعمهم ليس لهم فعل، بل هم مجبورون على هذا الفعل! لا شك أن قولهم هذا تبطل به الأحكام، وتعطل الشرائع، ولا حاجة إلى إرسال الرسل، مادام المطيع مجبوراً على الطاعة، والعاصي مجبوراً على المعصية، إذاً فلماذا أمر الله ونهى؟! لا شك أن هذا تجرؤ على الله جل وعلا، ثم هو أيضاً مخالفة للعقول والبداهة، الإنسان بفطرته يعرف أن عنده قدرة على المزاولة، إذا رأيت مثلاً إنساناً نشيطاً، ومع ذلك رأيته جالساً ليس له عمل، وليس له حرفة، مع أنه مفكر وعارف وقادر وقوي البنية وقوي التركيز وقوي الأعضاء ومع ذلك لا يعمل، ألست تلومه على هذه البطالة؟ وتقول له: إن الله يبغض الفارغ البطال، لماذا هذه البطالة؟ لماذا هذا الكسل؟ أتريد أن يأتيك رزقك ويدخل عليك بيتك؟ أتريد أن ينزل عليك الطعام والشراب من السماء؟ فأنت تلومه؛ لأنه مستحق لأن يلام؛ وذلك لأن الله سبحانه كما أمر بالطاعات، أمر بالكسب وأباحه في قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}[الملك:١٥] وفي قوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ}[الجاثية:١٣] .
فمادام كذلك فإنه سبحانه أمرنا بأن نبتغي الرزق، وأن نتطلبه، وكل عاقل يتطلب ذلك بفطرته، فإذا تمكن وقويت بنيته، وكملت أعضاؤه وكمل نموه، ما بقي عليه إلا أن يتكسب كما يتكسب آباؤه وأعمامه وأجداده، ويطلب ما يطلبون، ويعف نفسه ويغني نفسه.
فإذا كان ذلك جبلة وطبيعة، فكذلك في القوة الإيمانية والأوامر الشرعية يقال: إن الله أمرك بأن تطلب النجاة، وأن تعمل الأعمال التي تكون سبباً في سعادتك عاجلاً وآجلاً.
نقول بعد ذلك: لا شك أن الإنسان قد جبل على بعض الصفات، ويسمى ذلك جبلة ولا يسمى إجباراً، كما سمعنا من الشارح أنه فرق الجبر والجبل، فقال: لا يقال: هذا مجبور على فعله، بل يقال: مجبول على هذه الأخلاق، الجبلة: هي الطبيعة والخلقة، يقال: طبيعة فلان وجبلته الصدق، طبيعته الحلم، طبيعته اللين، أو طبيعته الكرم، السخاء، الاهتداء، النصيحة، وكذلك يقال: هذا جبل على البخل، وعلى الشح، وجبل على الجبن وعلى الخوف، وجبل على الكذب وعلى الخيانة وعلى الغش، وما أشبهها، يعني: أنها صفات جبلية مغروسة في نفسه، وأن نفسه الشريرة تميل إليها، أو نفسه الخيرة تميل إلى الصفات الخيرية.
أما الجبر الذي تقول به الجبرية فإنه الإكراه والإلزام على الفعل بدون اختيار، وبدون قدرة، فيقال مثلاً: الأمير أجبر فلاناً على القتل، أو فلاناً على السكر، يعني: أكرهه وألزمه به، وفلانة أجبرت على الزنا، يعني: أجبرها هذا وفعل بها، وهكذا، ففرق بين هذا وبين هذا.
فالصفات الجبلية أخلاق وليس فيها إكراه، بل يفعلها باختياره سواء كانت طاعات أو معاصي، وأما الجبر فالله منزه عن أن يجبر أحداً أو يكره أحداً، بل قال:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}[البقرة:٢٥٦] وإنما هي بالاختيارات وبالجبلات وما أشبهها.