للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إيمان أهل السنة بما هو قدري وامتثالهم لما هو شرعي]

بعد ذلك تكلم الشارح رحمه الله على القضاء الشرعي والقدري، يعني: أن الله سبحانه له القضاء والقدر، وله الشرع والأمر، فالمراد بالشرعي: الذي يكلف به ويؤمر به، والمراد بالقدري والكوني: الذي كتبه أزلاً، وقضاه وقدره في عالم الغيب، ولم يخير فيه، بل جعله أمراً أزلياً مقدراً مخلوقاً.

فعندنا -مثلاً- الإرادة تكون شرعية وقدرية، والأمر يكون شرعياً وقدرياً، والإذن يكون شرعياً وقدرياً، والحكم يكون شرعياً وقدرياً، والكتابة تكون شرعية وقدرية، والكلمات منها شرعية ومنها وقدرية، وأدلتها تقدمت في كلام الشارح رحمه الله.

والفرق بينهما: أن الأمر الشرعي كُلِفَ العباد به وبامتثاله، فإذا أمرهم أمراً شرعياً فإنهم يمتثلون ذلك الأمر.

وأما الأمر القدري: إذا أخبر بأن هذا مقدر عليهم، وهو أزلي، فإنه لا يُطلب منهم فعله؛ لأنه يخبر بأن هذا هو حكمه وهو قدره.

ويقال كذلك في التحريم: فإذا قيل: ما الفرق بين التحريم القدري، والتحريم الشرعي؟ ف

الجواب

أن التحريم القدري: إخبار بأن هذا الشيء لا يكون، وأن الله كتب تحريمه ومنعه بحيث لا يحصل ولا يتصور وجوده، وأما التحريم الشرعي فهو نهي، يعني: نهى الله العباد عن أن يفعلوا هذه الأشياء، وأخبرهم بأنها محرمة عليهم.

والتحريم معناه المنع، أي: منعناكم من هذه الأشياء، كقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:٢٣] إلى آخره، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:٣] ، فليس هذا مثل قوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأنبياء:٩٥] ، فإن ذلك معناه أن الله قدر أنها لا تعود، وجعل ذلك ممتنعاً أصلاً.

فعرفنا بذلك أن هناك فرقاً ظاهراً بين الأوامر الشرعية والقدرية، وبين الإذن الشرعي والقدري، وبين الإرادة الشرعية والقدرية، والحكم الشرعي والقدري، والكتابة الشرعية والقدرية وما أشبه ذلك.

فالذي يهمنا أن نؤمن بالقدري، ونعتقد أنه حق وصدق، نقول: هذا قدر الله، وهذه كتابته، وهذا تقديره علينا، لا مفر لنا منه، هذا حكمه الذي حكم به أزلاً على العباد.

أما الشرعي فإننا نمتثله ونعمل به، فإن قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} [المائدة:٤٥] ، {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ} [الأعراف:١٤٥] أمر شرعي، معناه: أنه أمر فيها بأوامر شرعية، من ذلك: أن النفس بالنفس إلخ، بخلاف قوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} [الأنبياء:١٠٥] ، وقوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف:١٤٥] وما أشبه ذلك من الأمور الماضية السابقة.

والفرق بينهما: أن الشرعي يدين به العباد ويعملون به، والقدري يؤمنون به ويعتقدونه.

ولم يعرف أكثر المبتدعة الفرق بينهما؛ فوقعوا في الخطأ والضلال، فإنهم لما لم يفرقوا بين الإرادة الشرعية والإرادة القدرية؛ جعلوا الجميع مراداً لله، وجعلوا إرادة الله للمعاصي رضاً بفعلها، فقالوا: إن الله لو لم يردها لما حصلت، ولو أراد الطاعات لحصلت.

نقول: إن هذه إرادة قدرية، فلا تقيسوها بالإرادة الشرعية.

تقدم الفرق بين الإرادتين ودليلهما، فإن دليلة الشرعية: قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء:٢٨] ، {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:٢٧] ، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة:١٨٥] ، هذه شرعية، بخلاف قوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:١٢٥] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:١] ، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:٢٥٣] فإن هذه إرادة قدرية دالة على أن قدرة الله تعالى أزلية قديمة، وأن العبد ليس له مفر مما قدره عليه.