تكلم الشارح رحمه الله -كما سمعنا- على مسألة الخلة التي قال الله فيها:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}[النساء:١٢٥] ، وذكر أن الخلة أعلى أنواع المحبة، وأن الخليل في الأصل: هو المحبوب الذي تخللت محبته شغاف القلب، فالخليل: هو المحبوب الذي بلغت محبته النهاية، والأخلاء: هم الأحباب، قال تعالى:{الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}[الزخرف:٦٧] يعني: الذين كانوا متحابين محبة شديدة في الدنيا، إذا لم تكن تلك المحبة على التقوى صار بعضهم في الآخرة لبعض عدواً، ولو كانت تلك المحبة والخلة وثيقة وقوية.
فالخلة تخلل المحبة شغاف القلب، قال الشاعر: قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلاً قوله: (مسلك الروح) يعني: دخلت فيما يدخل فيه الروح، الروح يسري في الجسد وفي العروق وفي الدماء وفي العظم وفي البشر وفي كل شيء ما عدا الشعر، فالروح يسري في كل الإنسان، يقول: إني أخاطب محبوبة كأنها تخللت ما تخلله الروح حتى وصلت إلى شغاف القلب، وبذا سمي الخليل خليلاً.
ويقول الشاعر أيضاً: لكل اجتماع من خليلين فرقة وكل الذي دون الممات قليل فالخليل: هو المحبوب.
وقال الله تعالى حكاية عن بعض الكفار في النار:{يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا}[الفرقان:٢٨] يعني: محبوباً.
الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، يعني: محبوباً، والنبي صلى الله عليه وسلم له أخلاء محبوبون، ولكن المحبة القوية الخالصة كانت بينه وبين ربه، فربه تعالى قد اتخذه خليلاً، وهو قد أحب ربه تلك المحبة التي هذه نهايتها، وهذه غايتها، فبقي قلبه ممتلئاً بتلك المحبة التي هي الخلة، ليس فيه موضع لغيره، وهكذا يجب على كل مؤمن أن يكون قلبه ممتلئاً بمحبة ربه، المحبة التي لا ينازعها غير محبة المحبوب.
الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، وأحبه هذا النوع من المحبة، وإبراهيم كذلك أحب ربه المحبة التامة التي هي أعلى أنواع المحبة، ولما وهبه الله ولده إسماعيل أحبه كما هو معلوم أن الولد محبوب في النفس، وأن النفس تميل إليه وتحبه محبة طبعية، محبة شفقة وحنان، فلما تعلق قلب إبراهيم بولده وأحبه غار الرب تعالى على خليله أن يكون في قلبه موضع لغير ربه، وأن يكون قلبه منشغلاً بربه، فهو يريد ألا يكون فيه أية محبة صادقة لغير الله تعالى، فعند ذلك امتحنه بذبح ولده، فلما استسلم لذلك، والتزم بأن يطيع ربه في هذه المحنة، وأن يذبح ولده؛ خرج ذلك الجزء الذي في قلب إبراهيم من المحبة لولده، وذلك الاشتراك الذي كان فيه من محبة الولد، وصفا قلب إبراهيم لربه، وعرف ربه من قلبه أنه ممتلئ بمحبة ربه، وأنه لا يقدم على محبته محبة مال ولا ولد ولا أخ ولا خليل ولا غير ذلك، فعند ذلك نسخ الله هذا الأمر كما سمعنا، وفداه الله بذبح عظيم.