للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تكليم الله لأهل الجنة يبطل قول المعتزلة]

قال رحمه الله تعالى: [وكم في الكتاب والسنة من دليل على تكليم الله تعالى لأهل الجنة وغيرهم قال تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:٥٨] ، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا أبصارهم فإذا الرب جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة.

وذلك قول الله تعالى: (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، وتبقى بركته ونوره عليهم في ديارهم) رواه ابن ماجة وغيره.

ففي هذا الحديث إثبات صفة الكلام، وإثبات الرؤية، وإثبات العلو، وكيف يصح مع هذا أن يكون كلام الرب كله معنى واحداً، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَة وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران:٧٧] ، فأهانهم بترك تكليمهم، والمراد أنه لا يكلمهم تكليم تكريم وهو الصحيح؛ إذ قد أخبر في الآية الأخرى أنه يقول لهم في النار: {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:١٠٨] ، فلو كان لا يكلم عباده المؤمنين لكانوا في ذلك هم وأعداؤه سواء، ولم يكن في تخصيص أعدائه بأنه لا يكلمهم فائدة أصلاً، وقال البخاري في صحيحه: (باب كلام الرب تبارك وتعالى مع أهل الجنة) ، وساق فيه عدة أحاديث، فأفضل نعيم أهل الجنة رؤية وجهه تبارك وتعالى وتكليمه لهم، فإنكار ذلك إنكار لروح الجنة وأعلى نعيمها وأفضله الذي ما طابت لأهلها إلا به] .

هذا أيضاً نوع من الأدلة، وهو ما حكاه الله تعالى من كلامه لأهل الجنة في عدة آيات، فيذكر الله تعالى أنه يخاطب أهل الجنة، فيقول: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:٤٦] ، ويقول تعالى يخاطب عباده يوم القيامة: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:٢٩] .

كذلك يحكي الله بأنه إذا دخل أهل الجنة الجنة سمعوا كلام الله، وذلك معنى قول الله: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:٥٨] ، والقول لابد أن يكون مسموعاً، فلابد أن أهل الجنة يسمعونه، ولا شك أن سماعهم لكلامه يعتبر نعمة ونعيماً، ولذة يلتذون بها، فيلتذون بسماع كلام ربهم كما يلتذون برؤية ربهم، ويتنعمون بذلك، ولكن أهل النار محرومون من الجميع، فحرموا من رؤية ربهم، كما في قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:١٥] ، فصار حجابهم عذاباً لهم، وحرموا من سماع كلامه الذي هو كلام نعيم وكلام رحمة لهم، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ} [آل عمران:٧٧] يعني: لا يكلمهم كلام رحمة وكلام نعمة، ففرق الله بين أهل الجنة وأهل النار بأن هؤلاء يكلمهم وهؤلاء لا يكلمهم، فدل على أن كلام الله تعالى حق وثابت، وأن تركه لكلام هؤلاء يعتبر عذاباً أليماً في حقهم.

ولا شك أن الكلام اسم لكل ما يسمعه المكلم والمنادى، وأهل الجنة ينادون فيرفعون أنظارهم فيسمعون كلام الله منه إليهم.

وكذلك موسى لما ناداه ربه سمع كلام الله تعالى، وكذلك ثبت أيضاً أن الصحابة قالوا: يا رسول الله! أربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزل قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ} [البقرة:١٨٦] يعني: أسمعهم وأجيبهم إذا دعوني.

ونزل أيضاً في موسى في خصائصه أن الله خصه بإسماعه كلامه في قوله تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:١٤٤] ، فأخبر بأن كلامه الحق الذي أسمعه موسى أنه من خصائص موسى دون غيره من أهل زمانه، وكل ذلك دلائل وشواهد ظاهرة في أن الله متكلم ويتكلم إذا شاء، وأن ذلك من صفات الكمال.