[تمكين الله لرسوله ونشر دينه وقهر أعدائه دليل على صحة الرسالة]
ذكر ابن القيم رحمه الله في بعض كتبه أنه لقي بعض النصارى الذين يكذبون برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: أنتم أيها النصارى! قد طعنتم في حكمة الله، وطعنتم في قدرته، وطعنتم في علمه واطلاعه! فاستغرب ذلك النصراني من هذا الكلام! فقال: إن تكذيبكم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم طعن في الله، وذلك أننا وأنتم نشاهد أنه ادعى أنه نبي، وقامت على يديه هذه المعجزات وهذه الدلالات التي هي دلائل نبوة، فكيف يقيمها الله على يديه وهو كذاب؟! ثم نصره الله في مواطن كثيرة! فانتصر على الأعداء وهم كثيرون، والمسلمون قلة، فكيف ينصره على أولئك الأعداد وهو يكذب عليه ويقول عليه ما لم يقل؟! ثم مكن الله لدينه، وانتشر هذا الدين الذي هو في زعمكم دين باطل مكذوب! فهل يليق بحكمة الله أن يعلي هذا الدين وهو دين باطل، وأن يظهره وأن يمكن لأهله، وأن يسلطهم على الناس: يقتلون ويأسرون ويفتحون البلاد، ويدوخون العباد، وهم مع ذلك كذبة متبعون لنبي كذاب؟! لا شك أن هذا طعن في الله، فأنتم يا معشر النصارى قد طعنتم في ربكم من حيث لا تشعرون؛ حيث كذبتم هذا النبي الذي هو في زعمكم ليس بنبي.
وطعنتم في حكمة الله، فإن الله حكيم يضع الأشياء في مواضعها، فكيف يليق بالله أن ينصره وأن يعلي سلطانه وأن يؤيده، وأن يظهر على يديه هذه المعجزات وهو يسمع كلامه الذي هو افتراء عليه وكذب! كيف ينصره ويمكن له في الأرض؟! وكيف يهدي قلوب الناس إلى اتباعه؟! وكيف يقبل بقلوبهم عليه؟! وكيف يظهر من صفاته ما يكون سبباً في تصديقه؟! ولا شك أن هذا شيء واقعي حقيقي، فإن الذين يكذبون برسالته عليه الصلاة والسلام، وهم يشاهدون أن دينه الحق قد انتشر وتمكن حتى غطى ثلثي المعمورة، وحتى دان به أكثر العباد، وشهدوا بحسنه وبملائمته، حتى الأعداء بمجرد ما يسمعون دعوته، ويعرفون شريعته وطريقته، تنطلق ألسنتهم بحسن ما جاء به، وتشهد بذلك عقولهم ويتبعونه دون تلكؤ ودون توقف، فإن هذا كله دليل على صحة هذا الدين، ودليل على قبول النفوس له، وأن الذين أنكروه إنما انتكست فطرهم ولم يعرفوا الحق مع قيام الأدلة الواضحة عليه.
فعلى هذا يعتبر هذا التمكين من أكبر الآيات، وأكبر المعجزات التي تدل على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم، حيث مكن الله له وحقق قول الله تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ}[النور:٥٥] ، وصدق الله هذا الوعد، فمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وفتح لهم القلوب، وهيَّأ لهم الأسباب ويسر لهم العسير وظهر دين الله تعالى، وتحقق قول الله عز وجل:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التوبة:٣٣] وقوله تعالى: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ}[التوبة:٣٢] ، {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ}[الصف:٨] فتمم الله نوره الذي هو هذه الشريعة، وأظهر هذا الدين على سائر الأديان، ولا شك أن ذلك من أكبر المعجزات.
ولو لم يكن هناك من دلائل نبوته التي تدل على صدقه عليه الصلاة والسلام، وصحة ما جاء به إلا النصر والتمكين وفتح القلوب والبلاد له، وما أيده به من هذا التمكين حتى أقبلت قلوب الناس إليه، وكان أحدهم يصبح وهو عدو له، فإذا أسلم في أول النهار لم يأته الليل إلا والإسلام أحب إليه من الدنيا وما فيها؛ وذلك لما يشاهدونه في هذا الإسلام من سهولة ومحبة وصلاحية وانشراح صدر وفرح وانبساط، وقوة يقين، لا شك أن هذا من أكبر الآيات والمعجزات، ولو لم يكن هناك آيات أخرى لكان هذا كافياً لإثبات أن هذا الدين حق وأنه من عند الله سبحانه وتعالى، هذا ما قرره الشارح في هذا الموضع.