[الرد على المعتزلة في الاستدلال بقوله: (لا تدركه الأبصار) على نفي الرؤية]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأما الآية الثانية وهي قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣] ) .
فالاستدلال بها على الرؤية من وجه حسن لطيف، وهو أن الله تعالى إنما ذكرها في سياق التمدُّح، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالصفات الثبوتية، وأما العدم المحض فليس بكمال فلا يُمدح به.
وإنما يُمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمراً وجودياً، كمدحه بنفي السِّنَة والنوم المتضمن كمال القيُّومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن كمال الربوبية والألوهية وقهره، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال صمديته وغناه، ونفي الشفاعة عنده إلَّا بإذنه المتضمن كمال توحده وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته، ونفي المِثْل المتضمن لكمال ذاته وصفاته.
ولهذا لم يمتدح بعدمٍ محض لم يتضمن أمراً ثبوتياً؛ فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه، فإذاً المعنى أنه يُرَى ولا يُدرَك ولا يُحاط به، فقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣] يدل على كمال عظمته، وأنه أكبر من كل شيء، وأنه لكمال عظمته لا يُدرَك بحيث يحاط به؛ فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء وهو قدر زائد على الرؤية، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قال كلا} [الشعراء:٦١-٦٢] ، فلم ينف موسى الرؤية، وإنما نفى الإدراك، فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالرب تعالى يُرَى ولا يُدرَك، كما يُعلَم ولا يُحاط به علماً، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الآية، كما ذُكرَت أقوالهم في تفسير الآية، بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها على ما هي عليه] .
أكبر ما يستدل به المعتزلة هذه الآية من سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:١٠٢-١٠٣] ؛ فإن هذه الآية اعتبروها أوضح الأدلة في أن الله لا يُرَى، قالوا: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣] يعني: لا تراه الأبصار.
وقد ذكر الشارح أن أهل السنة استدلوا بها على إثبات الرؤية لا على نفيها، وذلك لأن الإدراك هو الإحاطة، أي: لا تحيط به فإذا رأته الأبصار لا تحيط به، فالفرق بينهما واضح، فليست الرؤية هي الإدراك، فالإدراك شيء زائد على الرؤية.
ولهذا روي أن ابن عباس سئل عن هذه الآية فقال للسائل: ألستَ ترى القمر؟ قال: بلى.
قال: أكله -يعني: أتراه كله-؟ قال: لا.
قال: فذلك الإدراك.
يعني أنك ترى القمر ولكنك لا تراه كله، إنما ترى منه ما قابلك، فأنت -مثلاً- إذا رأيت جبلاً بعيداً رأيت منه ما قابلك ولم تره كله، فرؤيته كله أعلاه وأسفله والخفي منه والمقابل وغير المقابل يقال لها: الإدراك.
فإدراك البصر معناه: رؤية المرئي كله وعدم خفاء شيء منه، والله تعالى لعظمته ولجلاله ولكبريائه إذا رأته الأبصار فلا تحيط به ولا ترى إلَّا ما يتجلى منه لها، وينظر إليهم وينظرون إليه، ولكن لا يحيطون بذاته، إنما يدركون منه ما تجلى، ففرق واضح بين الرؤية والإدراك.
وقد أخبر الله تعالى عن قوم موسى أنه لا يُدرَكون فقال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} [الشعراء:٦١] يعني: قوم فرعون وقوم موسى {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:٦١] أخبر بأنهم يتراءون، هؤلاء يرون هؤلاء وهؤلاء يرون هؤلاء، فما معنى (مُدرَكون) ؟ أي: محاطون.
أي: سوف يحيطون بنا ويلحقوننا ويحدقون بها، هذا معنى الإدراك، فنفى ذلك موسى وقال: (كَلَّا) أي: لا تخافوا فلن يدركوكم {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:٦٢] ، وقد وعده الله بأنهم لا يُدرَكون في قول تعالى: {لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى} [طه:٧٧] ، فلما وعده بأنهم لا يُدرَكون وثق بوعد ربه وأنه لا يدركهم شيء.
فالحاصل أن هذه الآية دليل واضح على إثبات أن الله تعالى يُرَى، وذكرها في مجال التمدُّح، فالآية يتمدح بها الرب.
وقد ذكرنا أن الله لا يتمدَّح إلا بما هو ثبوتي، ولا يتمدح بالنفي المحض، فكونه لا يُرَى ليس فيه مدح، فالنفي المحض عدم والعدم ليس بشيء، والمعدوم لا يُمدَح به، وإنما مدح الله تعالى نفسه بالنفي الذي تضمن ثبوتاً.
وعلى كل حال يعتقد المسلم أن هذه الآية دليل على إثبات الرؤية لا على نفيها، ففيها أن الأبصار إذا نظرت إلى ربها لا تدركه أي: لا تحيط به، كما قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:١١٠] .