[حقيقة الاختلافات الواقعة في صدر الإسلام]
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وأما أهل البدعة فالأمر فيهم ظاهر، ومن جعل الله له هدايةً ونوراً رأى من هذا ما تبين له منفعة ما جاء في الكتاب والسنة من النهي عن هذا وأشباهه، وإن كانت القلوب الصحيحة تنكر هذا؛ لكن نور على نور.
والاختلاف الأول الذي هو اختلاف التنوع: الذم فيه واقعٌ على مَن بغى على الآخر فيه، وقد دل القرآن على حمد كل واحد من الطائفتين في مثل ذلك، إذا لم يحصل بغي، كما في قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:٥] ، وقد كانوا اختلفوا في قطع الأشجار، فقطع قوم، وترك آخرون.
وكما في قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلَّاً آتَيْنَا حُكْمَاً وَعِلْمَاً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:٧٨-٧٩] فخص سليمان بالفهم، وأثنى عليهما بالحكم والعلم.
وكما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة لمن صلى العصر في وقتها ولمن أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة.
وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) .
والاختلاف الثاني هو: ما حُمد فيه إحدى الطائفتين، وذُمت الأخرى، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:٢٥٣] .
وقوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:١٩] الآيات.
وأكثر الاختلاف الذي يؤول إلى الأهواء بين الأمة من القسم الأول، وكذلك إلى سفك الدماء، واستباحة الأموال والعداوة والبغضاء؛ لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق، ولا تنصفها، بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل، والأخرى كذلك، ولذلك جعل الله مصدره البغي في قوله: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ} [البقرة:٢١٣] ؛ لأن البغي مجاوزة الحد، وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرةً لهذه الأمة، وقريبٌ من هذا الباب ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به، معللاً بأن سبب هلاك الأولين إنما كان كثرة السؤال، ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية.
ثم الاختلاف في الكتاب من الذين يقرون به على نوعين: أحدهما: اختلاف في تنزيله.
والثاني: اختلاف في تأويله.
وكلاهما فيه إيمانٌ ببعض دون بعض.
فالأول: كاختلافهم في تكلم الله بالقرآن وتنزيله، فطائفة قالت: هذا الكلام حصل بقدرته ومشيئته، لكنه مخلوق في غيره لم يقم به، وطائفة قالت: بل هو صفة له قائم بذاته ليس بمخلوق؛ لكنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وكل من الطائفتين جمعت في كلامها بين حق وباطل، فآمنت ببعض الحق، وكذبت بما تقوله الأخرى من الحق، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك.
وأما الاختلاف في تأويله الذي يتضمن الإيمان ببعضه دون بعض فكثير، كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه ذات يوم وهم يختصمون في القدر، هذا ينزع بآية، وهذا ينزع بآية، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان فقال: (أبهذا أمرتم؟! أم بهذا وكلتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟! انظروا ما أمرتم به فاتبعوه، وما نهيتم عنه فانتهوا) وفي رواية: (يا قوم! بهذا ضلت الأمم قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتاب بعضه ببعض، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض؛ ولكن نزل القرآن يصدِّق بعضُه بعضاً، ما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه فآمنوا به) ، وفي رواية: (فإن الأمم قبلكم لم يُلعنوا حتى اختلفوا، وإن المراء في القرآن كفر) وهو حديث مشهور مخرج في المسانيد والسنن، وقد روى أصل الحديث مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله بن عمرو قال: هجَّرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعرف في وجهه الغضب فقال: (إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب) .
وجميع أهل البدع مختلفون في تأويله، مؤمنون ببعضه دون بعض، يقرون بما يوافق رأيهم من الآيات؛ وما يخالفه إما أن يتأولوه تأويلاً يحرفون فيه الكلم عن مواضعه، وإما أن يقولوا: هذا متشابه لا يعلم أحد معناه، فيجحدون ما أنزله الله من معانيه! وهو في معنى الكفر بذلك؛ لأن الإيمان باللفظ بلا معنى هو من جنس إيمان أهل الكتاب، كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَاً} [الجمعة:٥] ، وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:٧٨] أي: إلا تلاوةً من غير فهم معناه، وليس هذا كالمؤمن الذي فهم ما فهم من القرآن فعمل به، واشتبه عليه بعضه، فوكَل علمه إلى الله، كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالِمه) فامتثل ما أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم] .
في هذا الكلام يبين الشارح أن الاختلاف جنسه مذموم، وما ذاك إلا لأنه يسبب الوحشة والعداوة والبغضاء بين المسلمين، ويفرق الكلمة، ويوقع الفرقة المعنوية، بحيث تكون كل فرقة وكل حزب ينتصر لمحنته ولمعتقده ولمذهبه، ويضلل الآخر، فلا يكون المسلمون جميعاً مجتمعين، بل فرقاً وأحزاباً.
وأما الاختلاف الذي هو واقعي ولا يصل إلى حد الذم ولا التضليل فهذا اختلاف في فروع، أو يسمى اختلاف تنوُّع، ليس اختلاف تضاد، وذلك لأنه من طبيعة المجتهدين أن اجتهادهم يصيب تارةً ويخطئ تارة، وأن الذي يخطئ قد يخيل إليه أن الصواب معه، وأن الخطأ مع الآخر، فيستمر على خطئه الذي يظنه صواباً وهو معذور والحال هذه.