للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ثناء الله على الصحابة]

حب الصحابة رضي الله عنهم جميعاً من الإيمان، ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: (لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق) ومعلوم أن المهاجرين أقدم من الأنصار، وأفضل منهم، والله تعالى يقدم ذكرهم على الأنصار في القرآن، ومع ذلك فالأنصار لهم ميزتهم ولهم فضلهم، ولهم مكانتهم في السبق والفضل، كذلك أيضاً قد أثنى الله تعالى على جميع الصحابة كقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَه} [الفتح:٢٩] فلم يخص الله بعضهم، بل قال: (والذين معه) أي: كل الذين يجاهدون معه، والذين يجالسونه، والذين يصلون معه، كلهم مدحهم الله بقوله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:٢٩] هذا وصف لهم، وينبغي أن يكون هذا الوصف في أتباعهم، وهو أن تكون أيها المسلم! شديداً على الكفار رحيماً بالمؤمنين (أشداء على الكفار) يعني: تبغضهم وتمقتهم وتحقر شأنهم وتغلظ لهم القول، وتتبرأ من طريقتهم، وتجاهدهم بما تستطيع من أنواع الجهاد، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} [التوبة:٧٣] فوصف الله الصحابة بأنهم أشداء على الكفار، وكأنه يمدح الذين كانوا على هذه الطريقة في الشدة على الكفار، ومدحهم بأنهم رحماء بينهم، أي: يرحم بعضهم بعضاً، وما أجله من وصف أن يكون المؤمن رحيماً بإخوانه مشفقاً عليهم، محباً لهم؛ لأنهم مسلمون وهو مسلم.

ووصف الله الصحابة بقوله: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح:٢٩] سيماهم التي هي علامة على وجوههم من كثرة سجودهم، (ركعاً سجداً) دائماً يشتغلون بالركوع والسجود، وهذا دليل على أن من أخل بهذا الوصف وترك الركوع والسجود والصلاة فإنه مخالف لطريقة الصحابة، ومخالف لطريقة الأمة.

ووصفهم الله بأنهم (يبتغون فضلاً من الله ورضواناً) أي: يطلبون فضله ورضوانه.

ووصفهم في آخر الآية بقوله: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّار} [الفتح:٢٩] ، نقول لمن أبغضهم: إنهم قد أغاظوك، فأنت داخل في هذه الآية، فكل من أبغضهم قد صار في قلبه غيظ عليهم، وحقد وشنئان وبغضاء شنيعة لهم، لذلك نصفه بأنه داخل في هذه الآية، فمن أغاظه الصحابة فهو كافر، الله تعالى يقول: (ليغيظ بهم الكفار) فالمبغض لهم الذي أغاضه ما من الله به عليهم، من هؤلاء الكفار.

وقد مدح الله تعالى الصحابة بالسبق في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ} [التوبة:١٠٠] والسابقون يعني: المتقدمون من المهاجرين الذين أسلموا بمكة قبل الهجرة بعشر سنين وبثلاث عشرة سنة، ومن الأنصار الذين أسلموا قبل الهجرة بسنة أو سنتين أو أسلموا بعد الهجرة، ومن الذين اتبعوهم بإحسان يعني: ساروا على نهجهم واتبعوهم إلى يوم القيامة، مدح الله الجميع بقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه} [التوبة:١٠٠] ، وهذا فضل كبير أن رضي الله عنهم ورضوا عنه، {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَار} [التوبة:١٠٠] وما أعظمها من كرامة.

كذلك أيضاً مدحهم بالآيات التي في آخر سورة الأنفال فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّه} [الأنفال:٧٢] آمنوا إيماناً ثابتاً راسخاً في قلوبهم، وهاجروا من بلادهم التي هي بلاد كفر إلى بلاد الإسلام، وجاهدوا بالأموال، وجاهدوا بالأنفس، بذلوا كل ما يملكونه من الأموال، وبذلوا أنفسهم في سبيل الله، هؤلاء هم المهاجرون، {وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا} [الأنفال:٧٢] أي: الأنصار الذين آووا إخوانهم ونصروهم {أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض} [الأنفال:٧٢] ، ثم قال بعد ذلك: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:٧٤] مدحهم بأنهم المؤمنون حقاً، ثم قال بعد ذلك: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا} [الأنفال:٧٥] أي: المتأخرون الذين آمنوا في آخر الأمر وهاجروا وجاهدوا {فَأُوْلَئِكَ مِنْكُم} [الأنفال:٧٥] وما أعظمها من مزايا لهؤلاء الصحابة، ولكن الرافضة قوم لا يعقلون قوم لا خلاق لهم.

وقال الله تعالى في سورة الحديد: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَل} [الحديد:١٠] يعني: السابقون الذين أنفقوا وقاتلوا -سواءً من المهاجرين أو الأنصار- قبل الفتح، يعني: قبل صلح الحديبية الذي فتح الله به على المؤمنين {أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْد وَقَاتَلُوا} [الحديد:١٠] يعني: بعد الفتح، ولكن يقول الله تعالى {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:١٠] وعد الله المتقدم منهم والمتأخر بالحسنى، وهو الثواب الكبير والثواب العظيم.

وكذلك لما ذكر الله تقسيم الفيء في سورة الحشر، ذكر أن أول من يستحقه هؤلاء الفقراء من المهاجرين الذين هاجروا بأنفسهم وتركوا ديارهم، وتركوا أموالهم وعشائرهم وأهليهم ونجوا بأنفسهم {الَّذِينَ أُخْرِجُوا} [الحشر:٨] لما ضيق عليهم هربوا، {أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر:٨] لماذا؟ {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:٨] ثم قال في الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِم} [الحشر:٩] أي: هؤلاء الأنصار يحبون المهاجرين؛ لأنهم إخوانهم {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر:٩] لو أعطي المهاجرون ما أعطوا من الفيء ومن الغنائم ما غضب أولئك الأنصار، بل يوافقون على ذلك {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر:٩] أي: يقدم الأنصار إخوانهم من المهاجرين على أنفسهم {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:٩] أي: جوع {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:٩] ، ثم قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِم} [الحشر:١٠] سواءً كانوا آخر الصحابة الذين أسلموا بعد الفتح، أو الذين جاءوا بعدهم إلى يوم القيامة، هؤلاء منهم بشرط أن يدعو لهم، وأن يقولوا: (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا) ، ومن كان في قلبه غل وحقد وبغض وشنئان وغضب عليهم، فإنه بريء منهم، ولأجل ذلك استنبط العلماء أن الذين في قلوبهم غل على الصحابة وحقد عليهم ولا يدعون لهم بقولهم: (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) ؛ فليسوا من أهل الفيء ولا يستحقون أن يعطوا من بيت المال؛ وذلك لحقدهم على المسلمين وبالأخص الصحابة رضي الله عنهم.

وقد اشتهر أن هؤلاء الرافضة يبغضون الصحابة ويدعون عليهم ويشتمونهم، ولكن ذلك لا يضر الصحابة بل فيه خير لهم؛ لأنهم قد ختم على أعمالهم وانتهت أعمارهم، وحصلوا على ما حصلوا عليه من الثواب، وتستمر لهم الحسنات من هؤلاء الذين يسبونهم، روي عن بعض السلف أنه قال: ما أرى الناس ابتلوا بسب الصحابة إلا ليجري عليهم عملهم، أي: ليكون عمل الصحابة مستمراً غير منقطع، فيأخذون من حسنات هؤلاء الذين يسبونهم، وكأنهم لما حقدوا عليهم ورأوا أنهم ضلال وكفار عاد الضلال والكفر على هؤلاء والعياذ بالله، ودخلوا في قوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:٢٩] .