[أهمية دراسة العقيدة]
اجتمعنا في هذا المسجد المبارك لنستمع ونقرأ ما يتعلق بأصل ديننا، الأصل الأصيل الذي هو المعتقد، وما يتفرع عن ذلك المعتقد؛ وذلك أنه متى تأسست الأصول انبنت عليها الفروع، وإذا خربت الأصول سقطت الفروع، فالأصل لهذا الدين هو العقيدة، والفروع هي العبادات، فإذا كانت العقيدة راسخة في القلب نبعت عنها الأعمال، فأنتجت أعمالاً صالحة، وحصل من آثار تلك العقيدة الراسخة امتثال الأوامر، وترك الزواجر، والتصديق بالأخبار، والعمل الصالح، والعلم النافع، وكل ذلك من نتائج هذا الأصل الأصيل، ومن فروع هذه العقيدة.
وبنظرنا في سير سلفنا الصالح نرى أنه لما كانت العقيدة متمكنة في قلوبهم أكثروا من الأعمال الصالحة، وصدقوا بما أخبر الله، واندفعوا في تحقيق تلك الأوامر، وأفنوا في ذلك أموالهم وأنفسهم وبلادهم، وهانت عليهم كلها في سبيل تحقيق عقيدتهم، وترك ما كان عليه آباؤهم وأسلافهم.
لما عرفوا صحة الرسالة، وعرفوا صحة التوحيد، وعرفوا حقيقة الإيمان بالبعث، وعرفوا ثواب الله تعالى في الآخرة، وعرفوا صدق ما وعد الله تعالى به لهم؛ هانت عليهم بلادهم فتركوها، وهانت عليهم أموالهم، وسهلت عليهم عشائرهم وأزواجهم وأقاربهم، كل ذلك أصبح هيناً عليهم في سبيل تمكنهم من علمهم، وتمكنهم من العمل الذي أمروا به.
كذلك لما رسخت العقيدة في قلوبهم صدقوا بوعد الله الذي وعدهم أن ينصرهم، وأن يقويهم، وأن يمكن لهم في الأرض، وأن يستخلفهم كما استخلف الذين من قبلهم، وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمناً، فلما صدقوا هذا ورسخ وتمكن في قلوبهم، عند ذلك قاتلوا في سبيل الله وقتلوا، وكذلك هاجروا وهجروا كل قريب وبعيد، كل ذلك لأجل تصديقهم بخبر ربهم، وتصديقهم بوعده ووعيده، وطلبهم ما وعد الله لهم من الثواب الجزيل في الآخرة.
والذي حملهم على أن يقاتلوا الأعداء مع كثرتهم، ويصبروا حتى نصرهم الله، تصديقهم بوعد الله، حيث تمكن ذلك من قلوبهم، فقابلوا أعداد الكفار وعددهم، وقابلوا جيوشهم الهائلة المتراكمة، واثقين بأن الله لا يخلف وعده.
لا شك أن ذلك لأجل تمكن العقيدة في قلوبهم، وهكذا أتباعهم من بعدهم، فمن تأمل سيرة العلماء الذين بلغتهم السنة الصحيحة فتقبلوها، وجاءتهم الشريعة فصدقوها، وعلموا صحة ما جاء في هذه الرسالة، فآمنوا به إيماناً صحيحاً، لا يعتريه شك ولا ريب، فلما خالفهم من خالفهم، ولما أنكر عليهم بعض المبتدعة الذين زاغوا وضلوا، وحاولوا أن يردوهم عما هم عليه من المعتقد؛ امتنعوا أشد الامتناع، وأصروا على ما هم عليه، وأبوا إلا أن يدينوا بما يعرفونه وبما يعتقدونه، ولو خالفتهم فئام الناس، ولو هددوهم؛ كما حصل للأئمة.
ما الذي حملهم على الصبر على السجون؟ ما الذي حملهم أن يصبروا على الأذى؟ ما الذي حملهم أن يصبروا على الضرب وعلى الجلد كما حصل للإمام أحمد وابن تيمية وغيرهما؟ لا شك أنه ما رسخ في قلوبهم من تلك العقيدة التي نالوها من هذه الشريعة، فوثقوا بخبر الله سبحانه وتعالى، وصدقوا ما جاء عنه، وعلموا أن النصر لهم، وأن العاقبة الحميدة لهم، وأن مآل الانتصار والظهور لمن كان على الحق، ولو ناوأهم من ناوأهم، وخالفهم من خالفهم.
لا شك أن هذا كله من آثار صدق تلك العقيدة، ومن آثار قوة إيمانهم وتصديقهم.
نقول: إن الواجب علينا أن نكون مثلهم، نحن تلقينا العقيدة مثلما تلقوها، هم تلقوها عن مشايخهم، وهكذا عن آبائهم وأسلافهم، ولما تلقوها عرفوا أنها صحيحة ثابتة، فتركزت تلك العقيدة على الإيمان بالله، والإيمان بخبر الله، والإيمان بوعده ووعيده، والإيمان بكتبه ورسله، والإيمان بأمره ونهيه، والإيمان بقدره وشرعه، آمنوا بذلك، يعني: صدقوا به غاية التصديق، وقوي في أنفسهم، وقامت عليه الدلالات والبراهين، ولم يخطر ببالهم شك ولا ريب ولا توقف ولا شبهة تعتريهم، بل متى ألقيت عليهم شبهة أو شك في البعث، أو في النشور، أو في الجزاء، أو في الحساب، أو في الأمر والنهي؛ احترقت تلك الشبهة قبل أن تتمكن في قلوبهم؛ وذلك لقوة البراهين التي تضعف عندها تلك الشبه.
فنحن بحاجة إلى أن نعرف تلك البراهين والأدلة التي قامت عليها هذه العقيدة، بحاجة إلى أن ندرسها، ونعرف كيفية دلالتها، ودلالتها وإن كانت واضحة، ولكن تحتاج إلى قلوب فارغة من أضدادها.
إذاً: نحن بحاجة إلى أن نفرغ قلوبنا لها، تأتي إلينا وقلوبنا فارغة من الشبهات، فارغة من الشواغل، فارغة من الأضداد، فارغة من الضلالات والبدع، فإذا كان كذلك فإن العقيدة الراسية ترسخ فيها، ولا تتزعزع مهما اعتراها.
أما إذا تلقت تلك القلوب الفارغة بدعاً وضلالات وشركيات وخرافات في حالة فراغها، ولم تصغ إلا لها، ثم عرضت عليها بعد ذلك الأدلة الصحيحة، أو البراهين الساطعة، فإن تلك القلوب لا تجد لها مكاناً، فتبقى تلك القلوب مقفلة لا يدخلها الحق؛ لأنها امتلأت بالضلال فلم يجد الحق إليها سبيلاً، امتلأت القلوب الفاسدة بالبدع، فلم تجد السنة فيها مكاناً، امتلأت بالخرافات، وامتلأت بالمحدثات، وامتلأت بالشبهات، فلم يجد الدليل إليها وصولاً، فلا حيلة فيها إلا أن يشاء الله.
نحن نعجب من أهل البدع، وتمكن البدع في نفوسهم، وتمسكهم بها مع أنها تمجها النفوس، تمجها العقول، تنكرها الطباع والفطر، ومع ذلك يتمسكون بها غاية التمسك، ويعضون عليها بالنواجذ، ولو أتيتهم بكل آية ما أقلعوا عنها إلا أن يشاء الله، تأملوا -مثلاً- في الشيعة والرافضة الذين نشئوا على عقيدة زائغة، تأملوا كيف أنهم يبقون على هذه العقيدة، ويلقنون عليها أولادهم منذ الطفولة، ثم يحاول المحاولون في أن يقلعوا عنها، ويبينوا لهم السنة، ويبينوا لهم الدليل، ولكن يدخل الكلام من أذن ويخرج من الأخرى دون أن يصل إلى القلوب، بل قلوبهم ليس فيها مكان للتقبل.
كذلك الكثير من المبتدعة من أشعرية، من معتزلة، من جبرية، من مكارمة وغيرهم، لما امتلأت قلوبهم في الطفولة وفي الصغر بهذه الشبهات لم يجد الحق إليها سبيلاً.
ونحث المسلم أن يلقن أولاده في طفولتهم معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام، ومعرفة الحساب والجزاء، ومعرفة الأسماء والصفات، ومعرفة ما أمر به، وما نهي عنه؛ حتى يرسخ ذلك في قلبه ويحبه ويألفه، فإذا لقن غيره من الخرافات ودعي إليها لم يتقبل ذلك، بل نفر منها غاية النفرة، بخلاف ما إذا بقي جاهلاً لا يعرف شيئاً، أو لقن في صغره عقيدة زائغة، فإنه لا يقبل العقيدة الصحيحة، فهكذا فلنكن، وهكذا فلنتمكن من عقيدتنا، وهكذا فلتظهر آثارها.