للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحكمة في عدم إيمان جميع الخلق]

ولذا أجاب الشارح على الذين قالوا: لماذا خلق الله فيهم عدم الإيمان؟ بأنه ليس العدم شيئاً.

وكذلك قولهم: لماذا لم يساو بينهم فيهديهم كلهم، ويعطيهم العقول التي تهديهم إلى الخير؟ فأجاب: بأنه سبحانه له الحكمة؛ حيث إنه خلق دارين: داراً للنعيم، وداراً للجحيم، دار ثواب، ودار عقاب.

ولو سوّى بينهم في الاختيار والهداية لتعطلت إحدى الدارين، فمن حكمته أن جعل أهواءهم تختلف، فمنهم من اختار الهدى، ومنهم من اختار الضلالة، فمنهم من حقت عليه كلمة العذاب، ومنهم من اختار أسباب الثواب.

ولا يقال إنه ظلم هؤلاء حيث لم يوفقهم، بل يقال: إنه خلى بينهم وبين أنفسهم، وإنه لم ير هؤلاء أهلاً لنعمته، ولا أهلاً لرحمته، ولا أهلاً لحكمته، بل رأى أن فيهم من الطبع ومن الميل إلى الهوى ما لا يكونون معه أهلاً للفضل.

وأنت تشاهد -مثلاً- أبناء رجل واحد أو أهل بيت واحد، أي: أن تربيتهم تربية واحدة، ويتعلمون في مدرسة واحدة، ويربيهم أب واحد وأم واحدة، وكذلك يقرءون مناهج واحدة، ومع ذلك إذا كبروا فإنهم يتفاوتون، فمنهم من يميل إلى الخير ويؤثره ويحبه؛ بحيث إنه يعمل الصالحات ويتقبلها، ومنهم من هو ضد ذلك، بحيث يميل إلى الشر، ويميل إلى البطالة وإلى المعصية والضلالة.

فتقول: لماذا حصل هذا التفاوت؟ أليست تربيتهم واحدة وتعليمهم وتثقيفهم سواء؟ يقال: بلى، ولكن هؤلاء كتب الله لهم السعادة، وهؤلاء كتب عليهم الشقاوة هؤلاء خذلهم، وهؤلاء هداهم ووفقهم، والجميع لم يظلمهم، كما قال تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:٤٩] فكونه لم يوفق هؤلاء إنما هو بسبب أنه لم يرهم أهلاً لذلك، بل علم أن طبعهم وميلهم وعقولهم منتكسة ليست أهلاً لأن تستحق الهدى، فخلى بينهم وبين أنفسهم، فانخذلوا، وخرجوا عن الطواعية والاستقامة، بخلاف أولئك.

مع أننا نؤمن بأن هناك أسباباً جعلها الله مؤثرة في هذه الدنيا، والسبب الوحيد في هداية الإنسان هو توفيق الله له، وإعطاؤه قابلية للحق، وميلاً إليه، وأن يقذف الله في قلبه محبة للدين ولأهله، هذا هو السبب الأصل، ثم هناك أيضاً أسباب أخرى.

ولا شك أن تنشئة الوالدين جعلها الله سبباً: إما سبباً للخير أو سبباً للشر، فإذا كان الوالد محباً للخير فربى أولاده على العلم، وعلى الدين، وعلى الصلاة، وعلى التقوى، وعلمهم كل شيء ينفعهم، كان ذلك سبباً في الهداية والاستقامة، وإن كان قد يتخلف في بعضهم.

وكذلك إذا أراد الله بعبده الخير ووفقه بجليس صالح، وأصدقاء صالحين يهدونه ويدلونه، ويأخذون بيده إلى سبيل النجاة، ويبينون له الخير، ويحثونه على فعله، كان ذلك أيضاً من الأسباب للهداية والاستقامة.

فبكل حال نحن لا ننكر أن يكون هناك أسباب لها تأثير، لكن ذلك كله تقدير العزيز العليم؛ حيث جعل قلب العبد يميل إلى هذا، أو يميل إلى هذا.

مع أن تلك الأسباب قد تفعل مع الشخص الآخر، ولكن لا تزيده إلا عتواً ونفوراً، فأنت -مثلاً- قد تدعو إنساناً وتبذل له الأسباب فتعطيه نصائح، وترشده، وتخوفه، وتهدي إليه كتباً ونشرات وأشرطة مفيدة، فيسمعها ويهتدي ويتقبل بعد أن كان جاهلاً، أو بعد أن كان تائهاً ضالاً، أو بعد أن كان عاصياً عاتياً.

وتأتي إلى أخيه أو زميله وتعمل معه ذلك العمل فتأتي وتنصحه وتحذره وتخوفه، ولكن لا يتقبل، بل لا يزيده ذلك إلا عتواً ونفوراً، بل يزيده ذلك احتقاراً لمن يدعوه إلى الخير، وتنقصاً لأهل الخير، وازدراءً وتصغيراً لشأن الدعاة إلى الله، ويرى نفسه أفضل منهم.

فأنت أديت ما عليك إلا أن هذا منّ الله عليه وأقبل بقلبه، وهذا خذله وخلى بينه وبين نفسه وسلط عليه أعداءه، فاحتوشوه وتمكنوا من قيادته حيث يشاءون، فلم تنفع فيه الحيل، ولو شاء ربك لهدى الناس جميعاً.

قال المؤلف رحمه الله: [وهذا سؤال عن الحكمة التي أوجبت تقديم العدل على الفضل في بعض المحالّ؟ وهلا سوى بين العباد في الفضل؟ وهذا السؤال حاصله: لم َتفضّلَ على هذا ولم يتفضلْ على الآخر؟ وقد تولى الله سبحانه الجواب عنه بقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:٢١] ، وقوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:٢٩] .

ولما سأله اليهود والنصارى عن تخصيص هذه الأمة بأجرين وإعطائهم هم أجراً أجراً، قال: هل ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء.

وليس في الحكمة إطلاع كل فرد من أفراد الناس على كمال حكمته في عطائه ومنعه، بل إذا كشف الله عن بصيرة العبد حتى أبصر طرفاً يسيراً من حكمته في خلقه وأمره وثوابه وعقابه وتخصيصه وحرمانه، وتأمل أحوال محالّ ذلك، استدل بما علمه على ما لم يعلمه.

ولما استشكل أعداؤه المشركون هذا التخصيص قالوا: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:٥٣] قال تعالى مجيباً لهم: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:٥٣] ، فتأمل هذا الجواب! ترَ في ضمنه أنه سبحانه أعلم بالمحل الذي يصلح لغرس شجرة النعمة، فتثمر بالشكر، من المحل الذي لا يصلح لغرسها، فلو غرست فيه لم تثمر، فكان غرسها هناك ضائعاً لا يليق بالحكمة، كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:١٢٤]] .

فهذا المعنى قد ذكرنا ما يدل عليه، وقد عرفنا أن الرب سبحانه وتعالى هو الحكيم، الذي يضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، وأنه من حكمته قسم خلقه إلى سعيد وشقي، وعلم من هو أهل للتقوى فوفقه، ومن هو أهل للشقاء فخذله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:٤٩] .

فله الحكمة في أمره ونهيه، وله الحكمة في خلقه وتدبيره، وكذلك له الحكمة في هدايته وإضلاله، وفي توفيقه وخذلانه، يهدي من يشاء فضلاً، ويضل من يشاء عدلاً.

وفضله سبحانه على عباده كلهم، ففضله على الناس كلهم حيث خلقهم في أحسن تقويم، وحيث رزقهم وحيث أنعم عليهم، وأعطاهم ما يعيشون به: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:٦] فهذا هو الفضل العام الذي عممه على جميع الخلق.