[نفي الاحتجاج بآية الذاريات على ترادف الإيمان والإسلام]
قال الشارح رحمه الله: [وأما الاحتجاج بقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:٣٥-٣٦] على ترادف الإسلام والإيمان، فلا حجة فيه؛ لأن البيت المخرج كانوا متصفين بالإسلام والإيمان، ولا يلزم من الاتصاف بهما ترادفهما.
والظاهر: أن هذه المعارضات لم تثبت عن أبي حنيفة رضي الله عنه، وإنما هي من الأصحاب، فإن غالبها ساقط لا يرتضيه أبو حنيفة! وقد حكى الطحاوي حكاية أبي حنيفة مع حماد بن زيد، وأن حماد بن زيد لما روى له حديث: (أي الإسلام أفضل؟) إلى آخره، قال له: ألا تراه يقول: (أي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان) ثم جعل الهجرة والجهاد من الإيمان؟ فسكت أبو حنيفة، فقال بعض أصحابه: ألا تجيبه يا أبا حنيفة؟ قال: بم أجيبه، وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!] .
قد سبق كلام طويل يتعلق بالإيمان والإسلام، وما يدخل في الإسلام، وما يدخل في الإيمان، والمسألة قديمة، حدث فيها خلاف بين المرجئة وبين أهل السنة، فذهب المرجئة إلى أن الإيمان هو تصديق القلب، وجعلوا الأعمال ليست من مسمى الإيمان، وذهب أهل السنة إلى أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأن الإيمان له شعب وله فروع، كلها تسمى إيماناً، فتسمى الصلاة إيماناً أو شعبة من الإيمان، والشهادتان إيمان أو بعض من أصل الإيمان، والزكاة من الإيمان، والصدقة من الإيمان، والأذكار والأدعية إيمان وهكذا.
وسبق -أيضاً- الخلاف: هل الإسلام غير الإيمان؟ وهل هما متغايران أم مترادفان؟ فذهب بعضهم إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد.
والمحققون على أن الإسلام أوسع من الإيمان، وأن الإنسان قد يصير مسلماً ولا يصل إلى درجة الإيمان، فعلى هذا يكون الإيمان أخص من الإسلام.
والذين سووا بينهما احتجوا على أن الإسلام والإيمان شيء واحد بهذه الآيات التي في سورة الذاريات، وهي قوله تعالى في قصة قوم لوط: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:٣٥-٣٦] ، والكلام من الملائكة الذين يخاطبون إبراهيم عليه السلام بأنهم سوف يخرجون أهل الإيمان، فوصفوا أهل ذلك البيت -وهم لوط وأهل بيته- بأنهم مسلمون وبأنهم مؤمنون؛ فقيل: لأن الإيمان والإسلام مترادفان.
والصحيح أن الآية لا تدل على أن الإسلام هو الإيمان، وذلك لأن أهل بيت لوط كانوا متصفين بالإسلام وبالإيمان، فالإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان هو العقيدة الراسخة، كما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم فسر الإسلام في حديث جبريل بأركانه الخمسة، وفسر الإيمان بأركانه الستة، فجعل الإسلام أعمالاً: الشهادتين، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم.
وجعل الإيمان عقيدة، وهو: التصديق بالله، وبالملائكة، وبالرسل، وبالكتب، وبالبعث بعد الموت، وبالقضاء والقدر، جعل هذا هو الإيمان، فأفاد أن الإيمان أصلاً هو ما يقوم بالقلب من هذا التصديق، ولكن لا شك أن التصديق إذا كان راسخاً في العقل متمكناً في القلب نتجت عنه الأعمال، فأصبحت الأعمال هي الدلالة على أن هناك تصديقاً صادقاً، فلذلك دخلت العبادات في اسم الإيمان، فهذا أوضح الأدلة في أن الإسلام أوسع من الإيمان.
قد ذكرنا أن من العلماء من جعل الإسلام والإيمان والإحسان درجات، فمثلاً: درجة الأرضية الواسعة هي الإسلام، والدرجة الثانية: هي الإيمان، كأن المؤمنين خلاصة من المسلمين، انتقوا وخلصوا حتى صعدوا إلى الدرجة الثانية أو المرتبة الثانية، ثم خلصت من المؤمنين خلاصة الخلاصة وصفوة الصفوة، وجعلوا في المرتبة الثالثة، وسموا بالمحسنين أو بأهل الإحسان، كما في حديث جبريل أنه قسم المراتب ثلاثاً: الإسلام، والإيمان والإحسان، فأوسعهم أهل الإسلام، ثم بعد ذلك خلاصتهم أهل الإيمان، ثم بعده خلاصة الخلاصة أهل الإحسان، وهم أقل.
فيقال في أولئك الخلاصة: أنتم مسلمون ومؤمنون ومحسنون، أسلمتم أولاً، ثم آمنتم بعد ذلك، ثم أحسنتم ووصلتم إلى الرتبة العالية.
ويقال لأهل الإيمان: آمنتم بعدما أسلمتم.
ويقال لأهل الإسلام: أسلمتم فقط، لم تصلوا إلى الإيمان.
فعلى هذا فالإنسان الكامل هو الذي وصل إلى مرتبة الإحسان، أسلم ثم آمن ثم أحسن، وقد تقدم تفسير الإحسان بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، فكذلك يقال: الإيمان الحقيقي هو الذي تنتج عنه الأعمال، أما تصديق لا تنتج عنه أعمال فليس بإيمان.