[واجب المسلم تجاه مسائل العقيدة]
ينبغي للمسلم أن يهتم بأمر دينه؛ حتى يسلك طريق النجاة، ولا شك أن مبنى دينه على أمور العقيدة، التي إذا ثبتت ورسخت انبنت عليها صحة الأعمال، وأثيب عليها، وإذا فسدت العقيدة انبنى عليها وترتب عليها فساد الفروع والأعمال.
ولا شك أن من جملة العقيدة أسماء الإيمان والدين، وقد عرفنا جانباً كبيراً منها فيما يتعلق بالتكفير والتفسيق، وطريقة أهل السنة في ذلك، ومن خالفهم.
وسبب الخلاف في ذلك: أنه جاءت أحاديث كثيرة فيها الحكم بالكفر على بعض الأعمال التي هي من المعاصي، وتسمى تلك النصوص نصوص الوعيد، أو أحاديث الوعيد، وطريقة أهل السنة فيها أنهم يجرونها على ظاهرها؛ ليكون أبلغ في الزجر، مع اعتقادهم أنها لا تخرج من الملة، وأن مرتكب الكبيرة ولو كان متوعداً بالكفر أو نحو ذلك، فإنه لا يصل إلى أن يستباح دمه وماله، وأن يحكم عليه بالخلود في النار، بل يقال: هذا من الذنوب التي جاء فيها هذا الوعيد، وأمرها إلى الله تعالى، وكل المعاصي التي دون الشرك فإنها تحت مشيئة الله، إن شاء غفر لصاحبها، وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه.
هذه طريقة أهل السنة.
وقد مر بنا بعض أحاديث الوعيد التي فيها شيء من الغلظة والشدة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد) فإن هذا فيه نفي الإيمان، فنحن لا نقول: إنه خرج من الإيمان كلياً، ولا أنه دخل في الكفر.
المعتزلة يقولون: يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر.
والخوارج يقولون: يخرج من الإيمان، ويدخل في الكفر.
ونحن نقول: إنه لا يخرج من الإيمان، ولكنه تحت مشيئة الله، ونقول: إنه فاسق بهذا الذنب، ولا يصل إلى أن يستباح دمه وماله وعرضه، ولكن ذنبه غليظ.
ومثله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت) ومعلوم أن هاتين المعصيتين لا يكفر بهما.
ومثل قوله عليه الصلاة والسلام: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) ، ومعلوم أن قتاله لا يصل إلى حد أنه يخرج من الملة.
ومثله: قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) ، والأحاديث الكثيرة التي فيها: (ليس منا) كقوله: (من غشنا فليس منا) .
وأحاديث البراءة كقوله: (من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة فإن محمداً بريء منه) وما أشبه ذلك مما فيه البراءة من هذا الفعل أو الفاعل.
نقول: إن هذه جاءت للزجر عن هذه المعاصي، ومعلوم أنه جاءت أحاديث تدل على إخراج المسلمين الذين هم من أهل التوحيد من النار، إما بشفاعة الشافعين، وإما برحمة الله تعالى، فتلك الأحاديث تدل دلالة واضحة على أنه وإن عمل الكبائر ونحوها لا يصل إلى حد الكفر.
وفي حديث أبي ذر لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه ذرة من إيمان -يعني: أن عنده أصل الإيمان- فقال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق) فيدل على أنه لا يصل إلى حد الكفر بمثل هذه الذنوب.
ومع ذلك فإنه لا يجوز التساهل بهذه الذنوب؛ وذلك لأن التساهل بها والإدمان عليها يقسي القلب، ويصد عن الطاعة وفعل الحسنات، ويجرئ على كثرة السيئات، ويضعف الخوف من الله في القلب، وقد يسبب هذا الضعف ترك الواجبات، وارتكاب المحرمات، مما قد يكون سبباً في الطعن بالشريعة والعيب لها، والاعتراض على الله تعالى في تحريم هذا الشيء، أو إيجاب هذا الشيء، وذلك كفر؛ لأنه من الاعتراض على الله تعالى، ورد لأحكامه، والطعن في شيء من الشريعة بأنه غير مناسب، أو أنه جور أو نحو ذلك؛ تقوّل على الله، واعتراض عليه؛ فلأجل ذلك ينهى عن الإصرار على الذنوب حتى ولو كانت صغائر.
ويكثر في الأحاديث الزجر عن صغائر الذنوب وعن كبائرها، وتكثر الأدلة على الوعيد الشديد على بعض الذنوب، ويستشهد العلماء بأدلة فيها الهلاك والردى والعذاب لمن فعل هذه الذنوب، ولمن أصر عليها، وإذا عرف المسلم ذلك لم يتهاون بها ولو كانت لا تصل إلى الكفر؛ مخافة أنها مع التساهل ومع الاستمرار عليها تقسي قلبه، وتصده عن ذكر الله وعن معرفة الله.
والمسلم إذا تخلى عن السيئة حتى ولو صغيرة، وكرهها بقلبه، فبلا شك أنه سوف يحب الطاعات ويألفها، وتسهل عليه، ويحب الاستكثار منها، ولا شك أن الإقلاع عن السيئة والبعد عنها، وكثرة الحسنات، وكثرة الأعمال الصالحة مما يرفع الله تعالى به العبد درجات، ومما يقبل منه عبادته، ولا شك أن سبب ذلك معرفة عظم ثواب الله تعالى وأجره، حتى يكون بذلك مثابراً مكباً على الإكثار من الحسنات، وحتى يعرف عقاب الله وأليم عذابه على إصراره على الكبائر، ولو عذاب يوم أو عذاب ساعة أو نحو ذلك، فكيف بعذاب دهور متطاولة؟! كل ذلك مما يبعد الإنسان عن المعاصي، أي: معرفته بجزيل الثواب، ومعرفته بأليم العقاب.