[عقيدة المرجئة في مرتكب الذنوب]
قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) إلى آخر كلامه، رد على المرجئة، فإنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
فهؤلاء في طرف، والخوارج في طرف، فإنهم يقولون: نكفر المسلم بكل ذنب، أو بكل ذنب كبير، وكذلك المعتزلة الذين يقولون: يحبط إيمانه كله بالكبيرة، فلا يبقى معه شيء من الإيمان.
لكن الخوارج يقولون: يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، وهذه المنزلة بين المنزلتين، وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار! وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال، لكن في الاعتقادات البدعية، وإن كان صاحبها متأولاً، فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول، لا يفرقون بين المجتهد المخطىء وغيره، أو يقولون: يكفر كل مبتدع! وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة، فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك] .
ذكر الشارح أن هناك طائفتين متقابلتين: المرجئة، والوعيدية، فالمرجئة يبيحون إكثار الإنسان من الذنوب، ويقولون: إن الذنوب لا تضر ولو أكثر صاحبها، ويتعلقون بنصوص الوعد التي فيها أن أهل التوحيد ناجون، وأنهم من أهل الجنة، وأنهم يخرجون من النار، وأنهم يشفع فيهم ولو لم يفعلوا خيراً ونحو ذلك، هؤلاء هم المرجئة، يقولون: لا تضر الذنوب، حتى قال قائلهم: فكثر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم يقولون: نتعلق بكرمه، وقد روي عن بعض الزهاد أنه قرأ قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:٦] فقال: إذا قال لي ربي: ما غرك بربك الكريم؟ أقول: غرني كرمك! وهذا خطأ، والصواب أن يقال: إن الكريم لا ينبغي أن يقابل بالمعصية، إذا كان ربنا كريماً لا يجوز لنا أن نتجرأ على معصيته، ولا أن نتهاون بحقه، بل علينا أن نطيعه ونحذر من أسباب سخطه.
فعلى كل حال المرجئة هم الذين يقولون: لا تضر الذنوب وأصحابها يدخلون الجنة ولا يعذب أحد من أهل الذنوب ولو كانت كبيرة.
معلوم أنه قد وردت أحاديث فيها أنهم يعذبون وأنهم يحترقون، وأنهم يشفع فيهم، وأن الشافعين يعرفونهم بآثار السجود، وهذا دليل على أنهم يصلون ومع ذلك دخلوا النار، إلا أن النار لم تأكل آثار السجود، يعني: أعضاء السجود لا تأكلها النار، أما بقيتها فإنهم يحترقون كما ورد.
فدخلوا النار وهم مسلمون؛ بسبب ذنوب اقترفوها.
من عقيدة أهل السنة أن المعاصي التي دون الشرك قد يغفرها الله، وقد يعاقب عليها، وأما الشرك فإنه لابد أن يعاقب عليه، من عمل ما دون الشرك فقد يعفى عنه، ويغفر له ذنبه مهما كبر بمشيئة الله، وقد يدخله الله النار بسبب ما اقترفه من السيئات، ويكون ذلك تمحيصاً له من تلك السيئات، ودخوله في النار لأجل تمحيصه وإزالة ما فيه من الدرن، كالحديد الذي يدخل النار حتى يُصفى، حتى لا يبقى عليه شيء من الخبث، فهكذا هؤلاء الذين يدخلون النار من أهل الكبائر.
هذه عقيدة المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل.
وقياسهم ليس بصحيح، نحن نوافقهم على أن الشرك يحبط الأعمال، فالمشرك لو عمل أي عمل فأعماله حابطة؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:٦٥] ، وقال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:٨٨] ونحو ذلك من الآيات.
فقولهم: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، قياس خاطئ، نحن نقول: صحيح أنه لا تنفع الأعمال والحسنات مع الشرك؛ لقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:٢٣] لأن الشرك أحبطها، وقد قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:١٨] ، وفي آية أخرى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:٣٩] ، وفي آية أخرى: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} [البقرة:٢٦٤] صفاة صلبة عليها تراب وجاءها مطر شديد، لا يبقى على الصفاة شيء من التراب فهكذا أعمالهم ونفقاتهم لا تبقى، حيث إنه لا أساس لها ولا أصل.