وأما استدلال المعتزلة ببعض الآيات التي فيها إطلاق مشيئة العبد فإنه مقيد بالآيات الأخرى، فهم يستدلون بمثل قوله:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر}[الكهف:٢٩] ، ويقولون: إن الأمر مسند إليه إن شاء اختار كذا وإن شاء اختار كذا، فالأمر راجع إليه.
فهذا الإطلاق مقيد بالآيات الأخرى، ومنها آية الأنعام:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}[الأنعام:١٢٥] ، فربط الله الهداية والإضلال بمشيئته وبإرادته، فدل على أنه هو الذي يملك ذلك، ودلت على ذلك الآيات الأخرى، كقوله تعالى:{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ}[الزمر:٣٧] ، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[الرعد:٣٣] يعني: من قدر الله أن سيهتدي لم يقدر الخلق أن يضلوه، ومن قدر ضلاله لم يستطيعوا أن يهدوه وإن كان لذلك أسباب جعلها الله تعالى مؤثرة ومفيدة، ولكنها أيضاً أسباب أزلية، فقد كتب الله أن الولاية الصالحة والتربية الصالحة، والنصيحة وما أشبه ذلك من أسباب الهداية تؤثر بإذن الله، ولكن تأثيرها مكتوب وأزلي، وإلا فالآية على عمومها.
وهكذا في الحديث في خطبة الحاجة:(من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) ، حكم بأن الأمر لا يقدر على التصرف فيه إلا الله تعالى وحده، فيعرف الإنسان أن المشيئة والإرادة أمرهما إلى الله تعالى، فهو الذي يتصرف في الكون وحده، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قيل: يشكل على هذا قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا}[الأنعام:١٤٨] ، وقوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}[النحل:٣٥] ، وقوله تعالى:{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}[الزخرف:٢٠] ، فقد ذمهم الله تعالى حيث جعلوا الشرك كائنا منهم بمشيئة الله، وكذلك ذم إبليس حيث أضاف الإغواء إلى الله تعالى إذ قال:{رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر:٣٩] ، قيل: قد أجيب على هذا بأجوبة، من أحسنها: أنه أنكر عليهم ذلك؛ لأنهم احتجوا بمشيئته على رضاه ومحبته، وقالوا: لو كره ذلك وسخطه لما شاءه فجعلوا مشيئته دليل رضاه، فرد الله عليهم ذلك.
أو أنه أنكر عليهم اعتقادهم أن مشيئة الله دليل على أمره به.
أو أنه أنكر عليهم معارضة شرعه وأمره الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه بقضائه وقدره، فجعلوا المشيئة العامة دافعة للأمر، فلم يذكروا المشيئة على جهة التوحيد، وإنما ذكروها معارضين بها لأمره دافعين بها لشرعه كفعل الزنادقة والجهال إذا أمروا أو نهوا احتجوا بالقدر.
وقد احتج سارق على عمر رضي الله عنه بالقدر فقال:(وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره) ، يشهد لذلك قوله تعالى في الآية:{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}[يونس:٣٩] ، فعلم أن مرادهم التكذيب، فهو من قبل الفعل من أين له أن الله لم يقدره؟ أطلع الغيب؟]