[ثمرة الإيمان بالقدر وما يترتب عليه]
من جملة ما أخبرت به الرسل: الإيمان بقضاء الله وقدره خيره وشره، وحلوه ومره، كله من الله.
والإيمان بالقدر يدخل فيه الإيمان بعلم الله، بحيث يعتقد المسلم أن الله تعالى عالم بالأشياء قبل أن تقع، عالم بما يكون في الوجود، وما كان، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
ودليل هذا الإيمان أن الرب سبحانه وتعالى هو الذي يُحْدِث ما يَحْدُث في هذا الكون، فلا يُحْدِثه إلا وقد علمه، وعلم وقته وزمانه الذي يحصل فيه، وقد علم كيفية حصوله، فعلم عدد الخلق والتراب، وأبصر فلم يستر بصره حجاب، وسمع جهر القول وخفي الخطاب، وعلم ما سوف يحدث علم أعمال الخلق، وعلم عددهم، وعلم من يولد ومن لا يولد له، وعلم عمل كل مولود وما يُختم له قبل أن يوجد، كل ذلك يعلمه الله سبحانه وتعالى.
فالله بكل شيء عليم، يعلم السر والنجوى، ويعلم ما يدور في الصدور {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:١١٩] ، ويعلم ما تكنُّه الأنفس وما توسوس به الصدور، فإذا علم المسلم بذلك فإنه يحاسب عليه إذا شاء، يقول الله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:٢٨٤] ، وهو يحمل الإنسان على ألَّا يحدث نفسه إلَّا بالخير، وألَّا يهم إلَّا بالطاعة، وألَّا يتكلم إلَّا بما فيه مصلحة، وأن يبتعد عن العقائد السيئة، وعن الوساوس والأوهام والتوهُّمات، وكذلك عن الهمم السيئة، وبذلك يكون مؤمناً بالله تعالى.
كذلك يدخل في الإيمان بالقدر: قدرة الله، فإن الرب سبحانه قادر لا يعجزه شيء، ولا يكون في الوجود إلا ما يريد، ولا يخرج مخلوق عن قدرته، ولا يعجزه أي مخلوق، فهو يعامل من يشاء بدون أن يرده أحد، وينتقم ممن يشاء بدون أن يحتجب عنه محتجب، وينتصر ممن عصاه، وينتقم منه وهو عزيز ذو انتقام، ويُحِل بمن يشاء المثلات، ويُنْزِل بهم العقوبات، ويرسل عليهم النكبات إذا شاء، ويوسع على من يشاء، ويضيق على من يشاء.
فإذا اعتقد المسلم ذلك اعتقد أن التصرف في الكون له وحده.
كذلك أيضاً يؤمن بما أصابه وما وقع له، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، إذا أصابك شيء فاعلم أنه ليس منه مفر ولا محيد، فلا تقل: يا ليتني تقدمت أو تأخرت حتى أسلم من هذه المصيبة، بل تعلم أنها مكتوبة عليك لا مفر منها، وإن كان الرب سبحانه قد أمرك بأخذ الحذر.
فإذا علمت أن هذه قدرة الله، فعليك أيضاً أن تعلم بأن قدرة الله التي لا يخرج عنها شيء تدخل فيها الطاعات والمعاصي، فهو الذي قدَّر الطاعات وهو الذي قدَّر المعاصي كما يشاء، {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:١٤٩] ؛ ولكنه سبحانه أمر ونهى.
فالذين علم الله فيهم الخير امتثلوا ما أمرهم الله به، والذين علم فيهم السوء تركوا ما أُمروا به، فهؤلاء العاصون لهم العقاب، وإن كان الله هو الذي خذلهم بحكمته وعدله، وهؤلاء الذين أطاعوا لهم الثواب، وإن كان هو الذي وفقهم برحمته وفضله.
كذلك أيضاً ينبغي أن نعرف أن الخير كله من الله، وأنه لا يُنسب إليه الشر بوجه من الوجوه، ومذكورٌ في تلبية الحاج أنه يقول: لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، نحن عبادك الوافدون إليك، الراغبون فيما لديك.
فيقولون: الشر ليس إليك.
ومعلوم أن الله تعالى هو الذي قدر الخير والشر؛ ولكن صدوره من الله تعالى ليس شراً، بل هو خير لهم، وإنما يكون شراً بنسبته إلى العبد، فإذا قدر الله على هذا الكفر، وعلى هذا القتل، وعلى هذا الزنا، وعلى هذا الإسكار، وعلى هذا السرقة، ونحو ذلك؛ فهي شر بالنسبة إلى العبد، وخير بالنسبة إلى تقدير الله تعالى، فإنه هو الذي قدرها، وقدرها حتى يُعلم أنه على كل شيء قدير، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.