للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تضعيف القول بفناء النار]

هذا يتعلق بقول من يقول بأن عذاب النار لا يبقى، بل ينقطع، وأن له حداً ونهاية، وهذا قول قاله بعض العلماء عن اجتهاد، وعللوا بهذه التعليلات التي سمعنا، ونحن لا نشك أن الله تعالى رحيم بالعباد، وأن رحمته تغلب غضبه، ولكن نعرف أنه خلق للرحمة أهلاً.

وخلق للعذاب أهلاً، ولا نشك أيضاً: بأنه سبحانه جعل هذا العمل اليسير في الدنيا له ثواب عظيم مضاعف مستمر، وكذلك الكفر اليسير له عذاب دائم مستمر كثير؛ وذلك لمقتضى حكمته، فمثلاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) يعني: أن بعض الناس قد يولد كافراً ويحيا كافراً أو مبتدعاً، ويمضي عليه عمره وهو على كفره، وقبل موته بيوم أو بساعة أو سويعات يمن الله عليه فيهتدي ويسلم ويموت على الإسلام؛ فتكون تلك الساعة أو ذلك اليوم مكفراً لما مضى من عمره ماحياً لسيئاته وكفره وشركه وذنبه وجميع ما عمله طوال حياته، وكان رجل من الأنصار يقال له: أصيرم بن عبد الأشهل مشركاً مع قومه لم يسلم، ولما حضرت غزوة أحد وحضر القتال؛ هداه الله وأسلم، ولما أسلم دخل المعركة في تلك الساعة، وقاتل مع المسلمين وقتل شهيداً؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عمل قليلاً وأجر كثيراً) ، فعمله هذا القليل ثوابه لا ينقطع، ثواب دائم.

وبخلاف حاله رجل يقال له: قُزْمَان كان مع المسلمين، وقاتل قتالاً شديداً، ولكن قبل موته أصابته جراحة فقتل نفسه، وقبل أن يموت ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إنه من أهل النار) ، حبط عمله الصالح بهذه الفعلة، فنقول: العمل اليسير ساعة أو ساعات يثاب عليه العبد أبد الآباد، وكذلك الكفر اليسير الذي يختم لصاحبه به يعذب عليه أبد الآباد.

إذاً: لا مانع أن نقول: إن الله تعالى قدر هذا العذاب لمن كفر به وخرج عن طاعته، وجعل ذلك مستمراً لمن يستحقه بلا نهاية، كما خلق النعيم والأجر والثواب المستمر الباقي ولم يجعل له نهاية، وجعل ذلك ثواباً لمن عمل هذا العمل إلى غير نهاية، فهذا كله لا يخرج عن حكمة الله، فيعذب عذاباً مستمراً على العمل الكفري، وينعم نعيماً مستمراً على العمل الصالح.

وأما الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً؛ فهؤلاء إما أن يعفو الله عنهم ويمحو عنهم السيئات، وإما أن يعذبهم بقدر سيئاتهم، فيدخلون في النار، ويبقون فيها مدة طويلة أو قصيرة بقدر ذنوبهم، ثم يخرجون منها بعدما يمكثون فيها المدة التي قدر الله، فقد يمكثون ألف سنة أو ألفين أو ألوفاً، وقد لا يمكثون إلا قليلاً ثم يخرجون.

فأما أن النار تخمد وينقطع عذابها فهذا -على القول الصحيح- لا يكون، بل الله تعالى يقول: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً} [النساء:٥٦] ، وقال الله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ:٢٣] ، يقول العلماء: كلما انقضى حقب ابتدأ حقب، إلى غير نهاية، فالقول الصحيح أنها دائمة ومستمرة.