[تفسير آيات سورة النجم في المعراج]
هذه الآيات من سورة النجم، وهي قول الله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:٥] المعلَّم هو النبي صلى الله عليه وسلم، والمعلِّم شديد القوى هو الملك، أي: جبريل عليه السلام.
وقوله: (ذُو مِرَّةٍ) أي: ذو قوة.
(فَاسْتَوَى) : الاستواء هنا: الارتفاع.
(وَهُوَ بِالأُفُقِ) : أي ارتفع بالأفق الأعلى، والأفق: واحد الآفاق، وهي الجهات المتقابلة، فعلَّمه واستوى وارتفع {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} [النجم:٧] .
(ثُمَّ دَنَا) أي: قرُب منه، وذلك أيضاً بعدما عُرج به إلى السماء.
{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:٨] : التدلي والدنو هنا للملَك الذي هو جبريل، أي: قرب منه وتدلى.
يعني: انحدر إليه ونزل إليه.
{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:٨-٩] القوس: هو الآلة التي يُرمى بها، كانوا يرمون به بالسهام قبل وجود الأسلحة.
فيقول: إنه دنا منه وقرُب منه وهو يراه، حتى كان منه قدر قوسين أو أقرب من القوسين، هذا معنى {دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:٨-٩] .
وأما قوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:١٠] فلا شك أن الوحي من الله تعالى، فهو الذي أوحى إلى عبده، وسواءٌ أكان العبد هو الملَك أم البشر فالوحي من الله إلى الملَك الذي هو جبريل، ومن الملك إلى البشر الذي هو محمد عليهما الصلاة والسلام، أوحى إليه الشيء الذي أوحى، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:١٠] .
أما قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:١١] فالرؤية هنا قلبية، أي: ما كذَّب الفؤاد بالرؤية التي رآها، وهذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كُشف له وأعطي مكاشفات وأنواراً وفتوحات فُتحت على قلبه فاستنار قلبه، فأصبح كأنه يرى ربه رأي عين وإن كان مع ذلك إنما رآه رؤية بالقلب.
وهذا معنى قول السلف: إنه صلى الله عليه وسلم رآى ربه بقلبه.
أي: بتلك الكشوفات والفتوحات والواردات التي ترد على قلبه مما يطمئن به ويقوى بذلك يقينه، فهذا دليل على أنه لم يَرَ ربه رؤيةً بصرية؛ لقوله في الحديث السابق لما قيل له: هل رأيت ربك؟ فقال: (نورٌ أنى أراه؟!) أي: دونه أنوار فكيف أراه؟! وفي رواية: (رأيت نوراً) ، فإذاً الرؤية هنا رؤية قلبية.
{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} [النجم:١١] ، وفي قراءة: {مَا كَذَّبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:١١] أي: لم يكذِّب بما رآه من الكشوفات والإلهامات والواردات التي وردت عليه، {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:١١] .
وأما قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:١٣] فالرؤية هنا أيضاً للملك، أي: ولقد رأى جبريل عليه السلام نزله أخرى أي: مرةً أخرى.
فهذه مرة رأى فيها جبريل عليه السلام وهو في السماء على الهيئة والصورة التي خلق عليها وقد سد الأفق، وله ستمائة جناح، والمرة الأولى ذُكرت في سورة {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:١] في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:٢٣] ، فرآه بالأفق الأعلى، ورآه بالأفق المبين، قد سد ما بين الأفقين، له ستمائة جناح ينزل منها من الدر والياقوت ما الله به عليم، كما ورد ذلك في حديث.
فإذاًَ ثبت أن عائشة لما سئلت عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:٢٣] ، وقوله: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:٦-١٣] ، فذكرت أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر بأنه رأى جبريل عليه السلام مرتين في صورته التي خلق عليها، {نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:١٣-١٤] ، رآه هذه المرة بالأفق الأعلى عند سدرة المنتهى، وهي سدرة عظيمة في الجنة، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن (أوراقها مثل آذان الفيلة، وأن نبقها -يعني: حملها- مثل قلال هجر) ، والقِلال: جمع قلة، وهي أواني الفخار الكبيرة التي تُعمل للمياه ونحوها.
هذه هي سدرة المنتهى التي عندها جنة المأوى.