للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خطورة القول على الله بغير علم]

قال الشارح رحمنا الله وإياه: [قوله: (ونقول: الله أعلم فيما اشتبه علينا علمه) تقدم في كلام الشيخ رحمه الله تعالى أنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورد ما اشتبه عليه إلى عالمه، ومن تكلم بغير علم فإنما يتبع هواه، وقد قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ} [القصص:٥٠] ، وقال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:٣-٤] ، وقال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:٣٥] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:٣٣] .

وقد أمر الله نبيه أن يرد علم ما لم يعلم إليه، فقال تعالى: {قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:٢٦] ، {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} [الكهف:٢٢] ، وقد قال صلى عليه وسلم لما سئل عن أطفال المشركين: (الله أعلم بما كانوا عاملين) .

وقال عمر رضي الله عنه: (اتهموا الرأي في الدين، فلو رأيتني يوم أبي جندل، فلقد رأيتني وإني لأرد أمر رسول الله برأيي، فأجتهد ولا آلو، وذلك يوم أبي جندل والكتاب يُكتب، وقال اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، قال: اكتب: باسمك اللهم، فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب وأبيت، فقال: (يا عمر! تراني قد رضيت وتأبى؟!) وقال أيضاً رضي الله عنه: (السنة ما سنه الله ورسوله، ولا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة) .

وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني، إن قلت في آية من كتاب الله برأيي، أو بما لا أعلم) .

وذكر الحسن بن علي الحلواني حدثنا عارم حدثنا حماد بن زيد عن سعيد بن أبي صدقة عن ابن سيرين قال: لم يكن أحد أهيب لما لا يعلم من أبي بكر، ولم يكن بعد أبي بكر أهيب لما لا يعلم من عمر رضي الله عنه، وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله منها أصلاً، ولا في السنة أثراً، فاجتهد برأيه، ثم قال: هذا رأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً فمني وأستغفر الله] .

هذه مسألة جديدة، وهي: مسألة الفتيا بغير علم، والجرأة على الفتيا، والقول في الشرع بغير علم ذنب كبير، وقد روي عن بعض السلف، وروي مرفوعاً: (أجرأكم على الفتيا أجرأكم على النار) يعني: الفتيا بغير علم؛ وذلك لأن الذي يتكلم ويقول في الشرع وفي الدين برأيه وبهواه وبما يستحسنه، ينصب نفسه مشرعاً، وكأنه نائب عن الله، ومزاحم للرب تعالى في شرعه، يقول: أحل الله كذا، وحرم كذا، وأمر بكذا، ونهى عن كذا، وليس عنده مستند، وإنما يعتمد على ما يستحسنه، وما يراه في هواه ملائماً لواقعه، أو نحو ذلك، فلا جرم أن كان هذا ذنباً كبيراً، حتى قال بعضهم: القول على الله بلا علم أكبر من الشرك، واستدلوا بهذه الآية التي في سورة الأعراف، والتي حرم الله فيها خمسة أشياء، فبدأ بالأسهل ثم الذي فوقه إلى أن أتى إلى أعلاها وأشدها تحريماً، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ َ} [الأعراف:٣٣] فهذا التحريم الأول، ثم جاء بعده ما هو أشد منه: {وَالإِثْمَ} [الأعراف:٣٣] فالإثم أشد من الفواحش، ثم جاء بعد الإثم ما هو أشد منه تحريماً فقال: {وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:٣٣] والبغي: الاستطالة على الناس بغير حق، فهو أكبر من الإثم، ثم جاء بعد البغي أكبر منه: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} [الأعراف:٣٣] ، ثم جاء بعد الشرك أكبر منه: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:٣٣] فجعل القول على الله أكبر الخمسة التي حرمت في هذه الآية؛ وذلك لأن الذي يقول على الله كأنه رفع نفسه فوق الأنبياء، ورفع نفسه فوق العلماء، وجعل نفسه مشرعاً يحلل ويحرم ويقول على الله ما ليس له به علم.