[كل ما أوجده الله فهو خير بالنسبة إليه تعالى]
هذا الاعتراض الذي يعترض به بعض غلاة القدرية على خلق الله تعالى للشرور وللأشرار، قد يعترض بذلك فيقال: لماذا خلق الله إبليس مع أنه كله شر؟! ولماذا خلق الله الكفرة والمشركين الذين ليس فيهم خير، بل هم شر وجودهم ضرر على المسلمين؟! ولماذا خلق الله أو أوجد هذه المعاصي والأسباب التي يستعان بها عليها؟ لماذا وجدت المسكرات مثلاً وما يتصل بها؟! ولماذا وجدت العاهرات والفاسقات؟! ولماذا وجد المفسدون الذي يعيثون في الأرض فساداً؟! ولماذا وجدت المعاصي؟! قد يعترضون ويقولون: هذا شر، فكيف أوجده الله وكيف أراده وكيف خلقه، مع أنه لا يحصل به إلا شر وضرر على الأمم الدينية، فيتضررون بوجود هؤلاء الكفار حيث إنهم يصدونهم عن الهدى، ويحاولون ردهم إلى الكفر وإخراجهم من ملة الإسلام، ويلقون عليهم الشبهات والشكوك، ويظهرون الفساد والمعاصي ونحو ذلك، فلماذا أوجدوا ولماذا خلقهم الله، ولماذا مكنهم الله؟! أليس في هذا إعانة على المعاصي؟ أليس في هذا تمكين للعصاة وتقوية لشأنهم؟ هذا خلاصة هذا الاعتراض على حكم الله سبحانه وتعالى.
وقد تقدم أنه سبحانه خلق الجنة والنار، فمن حكمته أن جعل داراً للثواب وداراً للعقاب، فلا بد أن لهذه من يسكنها ولهذه من يدخلها، حكمة الله لا بد أن تتم لذلك، فلما كان كذلك لم يكن بد من أن يكون الخلق فريقين: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:٧] .
وتقدم أن من أسماء الله تعالى الذي سمى بها نفسه وامتدح بها، أسماء تدل على مثل هذه الأفعال، كاسمه المنتقم، واسمه الجبار، واسمه العزيز، وذي القوة المتين، وكذلك أسماؤه المزدوجة مثل: الخافض الرافع، المعز المذل، المعطي المانع، فلا بد أن تظهر مدلولات هذه الأسماء، ولا تظهر إلا إذا وجد من يذلهم الله ومن يمنعهم ومن يخفضهم.
ولا بد أن يوجد من يقهرهم باسمه القهار، ومن يقدر على عقوبتهم بموجب اسمه القادر، ومن يرحمهم ويغفر لهم بموجب اسمه الغفور الرحيم، ولو كان الناس كلهم أتقياء بررة لم تظهر آثار أسمائه: الغفور الرحيم، وهكذا بقية أسماء الله سبحانه وتعالى.
بعد ذلك الجواب عن هذا الاعتراض، والجواب أن نقول: كل ما أوجده الله وأراده فإنه خير بالنسبة إلى الله تعالى وإن كان شراً بالنسبة إلى العبد الذي صدر منه ذلك الشر، وذلك لأن الله تعالى ما أوجده إلا لمصلحة، وهي الاختبار والابتلاء للعباد، ولكي يظهر من يصبر ومن يجزع، ومن يطيع ومن يعصي، ويظهر من يمتثل ومن يأبى، ولكي يظهر من يكون صالحاً أو يكون فاسداً.
هذا من اختبار الله لعباده، فهو سلط عليهم هؤلاء الأعداء، فسلط عليهم إبليس الرجيم حتى يكون منهم مقاومة وشدة تمسك رغم ما يلقيه من الدعوات إلى الفساد وإلى المعاصي، فيثابون ويزداد ثوابهم إذا تمسكوا، كذلك سلط عليهم الشهوات التي تدفعهم إلى المحرمات، وأظهرها أمامهم فتنة، فيثبت الله أولياءه ويخذل أعداءه، فالذي يستمسك بالدين ويصبر عليه هو الذي يعظم ثوابه، وهذا أيضاً يصدق على المصائب التي تحصل للعباد، وقد يكون حصولها للأتقياء أكثر من حصولها للفسقة ونحوهم، فالمصائب التي ذكرها الله تعالى بقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة:١٥٥] ، هذه قد يكون الابتلاء بها للمؤمنين أشد.
الكفار قد يمتعون بالقوة ويمتعون بالأموال ونحو ذلك، كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا} [سبأ:٣٥] ، فهذا الابتلاء الذي يبتلي الله تعالى به المؤمنين ليكون أعظم لأجرهم إذا صبروا واحتسبوا، فهكذا خلقه لهذه الشرور ليكون أعظم للأجر، فإذا عرف العبد أنه قد سلط عليه الأعداء فصبر عد مجاهداً غاية الجهاد، فهو يجاهد الشيطان الرجيم الذي يسول له ويوسوس له، وهو يجاهد النفس الأمارة بالسوء التي تتخيل له دائماً وتدفعه، وهو يجاهد الهوى الذي يعمي ويصم، وهو يجاهد الشهوات التي تتجلى له وتندفع نفسه إليها وتتزين له، ولكنه يمسك نفسه ويقمعها، فيعتبر بذلك مجاهداً غاية الجهاد.
وهو يجاهد قرناء السوء وجلساء السوء الذين يدفعونه إلى الشرور ويدعونه إليه، هذا يدعوه إلى زنا، وهذا يدعوه إلى ربا، وهذا يدعوه إلى شرك، وهذا يدعوه إلى غش، وهذا يدعوه إلى تكاسل عن عبادة، وهذا يدعوه إلى شرب مسكر، وهذا يدعوه إلى كذا وإلى كذا، ولكنه يمسك زمام نفسه ويجاهد هؤلاء الدعاة، ويرد عليهم دعايتهم، فلو كان الناس كلهم مفطورين على الإسلام ما ظهر هذا الجهاد، زيادة على الجهاد الحسي الذي هو جهاد الكفار الذي أمر الله به وأكده وكرر ذكره بعدد من الآيات.
لا شك أن الإنسان متى قاوم هذه المقاومة وصبر هذه المصابرة، فإنه يعد ناجحاً في هذا الابتلاء والاختبار، ويعد مثاباً غاية الثواب، فيجزل الله له الأجر على ذلك فهذا من حكمة الله! إذاً: فلا يعترض على الله ولا يقال: لماذا سلط الأشرار؟ ولماذا قواهم؟ ولماذا أعطاهم الدنيا، وأعطاهم النعم، وأعطاهم العدد والعدة ونحو ذلك؟ لا يعترض على الله بشيء من ذلك، كما لا يقال: لماذا خلق الله إبليس؟ ولماذا خلق الله هذه الشهوات المحرمة؟ ولماذا أوجد الله هذه المسكرات وهذه المخدرات وما أشبهها؟ لا يعترض على الله تعالى، لأنه أوجد ذلك ليظهر من يصبر ممن يجزع، وليظهر من يقوى على نفسه ومن لا يقوى، فيثاب هذا على مقاومته، ويعرف بذلك عدم صبر هؤلاء الذين لم يصبروا على قمع نفوسهم الأمارة بالسوء، فلله تعالى الحكمة في ذلك.
فهو خير بالنسبة إلى خلق الله تعالى وإيجاده، وشر بالنسبة إلى فعل العبد، فالعبد مثلاً إذا زنا قيل: هذا الزنا شر، حيث إنه صدر منه، ولكن الله تعالى هو الذي قدر ذلك وأحدثه، فهو خير بالنسبة إلى إيجاد الله تعالى، حيث إنه اختبر العباد بذلك وجعل أسبابه ظاهرة.
كذلك العبد إذا سكر مثلاً، والمرأة إذا تبرجت وتجملت وفعلت ما لا يحل لها فعله عند الأجانب، والرجل إذا تعاطى غشاً في معاملة أو غصباً أو سرقة أو اختلاساً أو ما أشبه ذلك.
كذلك إذا سولت له نفسه ترك الصلوات أو تخلفاً عن جماعات أو ما أشبه ذلك من ترك الطاعات؛ فالله تعالى هو الذي قدر أسباب ذلك، ولكنه جعل ذلك اختباراً للعباد وابتلاءً لهم، ليظهر بذلك أهل طاعته الذين أراد الله بهم الخير فقويت نفوسهم وأعطاهم قوة، والذين خذلهم وخلى بينهم وبين نفوسهم، وقوى عليهم أعداءهم فلم يتمكنوا من مقاومة أولئك الأعداء، فأصبحوا من الخاسرين.