القسم الثاني من الاستطاعة: الاستطاعة التي هي مزاولة الفعل والقدرة عليه، وهذه هي التي لا يكلف الله من لم يقدر عليها، فالعاجز -مثلاً- عن الحج بدنياً لا يستطيعه؛ ولذلك قال تعالى:{مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}[آل عمران:٩٧] ، والفقير الذي لا يجد ما يوصله إلى مكة لا يستطيع، ولو كان يستطيع بدنياً، والذي لا يستطيع بدنياً كالذي لا يثبت على السيارة أو على الطائرة لمرض أو لشلل أو لخوف أو ما أشبه ذلك، يقال عنه أيضاً: لا يستطيع الثبوت على المركوب فهو معذور بذلك، لا يستطيع بماله أو لا يستطيع ببدنه.
ومعلوم أن الله تعالى لا يكلف الإنسان مع عجزه، إنما يكلفه إذا كان قادراً، وكذلك إذا كان فاهماً، ولذلك أسقط الله التكاليف عن الأطفال لكونهم غير قادرين ولا فاهمين، وأسقطها عن فاقدي العقول لنقصهم معنوياً، وكذلك أسقطها عن العاجزين في قوله تعالى في الجهاد:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ}[التوبة:٩١] ، يعني: ليس عليهم حرج في أن يتخلفوا عن الجهاد، مثل هؤلاء لا يستطيعون أن يخوضوا المعارك، وكذلك المرضى لا يستطيعون، وكذلك الذين لا يجدون ما ينفقون، لا يجدون مركوباً أو لا يجدون عدة، فهؤلاء أسقط الله عنهم الجهاد، كما أسقط عن العاجز مالياً الحج بقوله:{مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}[آل عمران:٩٧] ، وفسرت (سبيلاً) : بالزاد والراحلة في بعض الأحاديث والآثار، فدل على أن الاستطاعة: قدرة العبد من حيث المال ومن حيث البدن، فإذا كان ذلك الفعل يستدعي مالاً كالحج والجهاد سقط عنه إذا فقد المال، وإذا كان لا يستدعي مالاً كالقريب من مكة ولكنه يستدعي قوة البدن، وكان هذا الإنسان مريضاً أو عاجزاً بدنياً سقط عنه، والجهاد كذلك يسقط عنه إذا كان عاجزاً بدنياً، وأما إذا كان عاجزاً مالياً، ولكن هناك من تكفل به وجهزه فإنه لا يسقط عنه.
وكذلك العبادات البدنية المحضة إذا كان فيها مشقة فإنها تسقط أو تؤجل، مثل: الصيام في السفر أو في المرض، يقال: لا يستطيع أن يصوم وهو مريض، لا يستطيع أن يصوم وهو مسافر لمشقة السفر، فيؤجل الصيام، وكذلك بقية الأعذار، أما الصلاة فإنها عمل بدني؛ فلأجل ذلك تتوقف أفعالها على القوة والقدرة، فإذا لم يستطع أن يحصل على الماء سقطت عنه الطهارة بالماء، واكتفى بالتيمم، يقال: لا يستطيع الحصول على الماء أو لا يستطيع استعمال الماء لمرض أو حرق أو نحو ذلك، وكذلك فعل الصلاة: إذا لم يستطع أن يصلي وهو قائم صلى وهو جالس، فإن عجز عن الصلاة جالساً صلى على جنب أو مستلقياً كما في بعض الروايات، فمن عجز عن نوع من الاستطاعة البدنية انتقل إلى ما يستطيعه، ويعرف ذلك العرب في كل شيء حتى يقول بعضهم: إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيعُ أراد بذلك الأمور العادية، أي: الأفعال المحسوسة، فمثلاً: الحرف تختلف، فالإنسان الذي معه قوة بدنية يستطيع أن يحمل الأثقال، فهذا يحترف هذه الحرفة، وقد تكون أكثر أجرة، وآخر لا يستطيع ذلك، ولكن يستطيع أن يعمل الأعمال التي ليس فيها حمل ولا أثقال، كحراسة أو ما أشبهها، فالناس يتفاوتون في الاستطاعة.