للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تحريف بعض المعتزلة للقرآن ليوافق معتقدهم]

ولقد قال بعضهم لـ أبي عمرو بن العلاء - أحد القراء السبعة -: أريد أن تقرأ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى} [النساء:١٦٤] بنصب اسم الله، ليكون موسى هو المتكلم لا الله، فقال أبو عمرو: هب أني قرأت هذه الآية كذا، فكيف تصنع بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:١٤٣] فبهت المعتزلي!] .

عرفنا أن صفة الكلام صفة شرف وصفة كمال، ونفيها صفة نقص، واستدل الشارح بقوله تعالى في حكاية قصة العجل الذي عبده أصحاب موسى، قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:١٤٨] ، وقال في موضع آخر: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [طه:٨٩] ، وبخهم موسى وكذلك هارون، وقالوا: كيف تعبدون من لا يتكلم؟ وكيف تعبدون من لا يكلمكم؟ فلم يقولوا كما قالت المعتزلة، فلو كان الله تعالى لا يتكلم لقال قوم موسى لموسى: وربك أيضاً لا يتكلم.

ولكنهم أعقل من المعتزلة، فعرف بذلك أن صفة الكلام صفة كمال وشرف، وأنها ثابتة لله تعالى عن طريق التواتر لكثرة الأدلة التي تبينها، والتي اتضحت دلالتها من تلك النصوص.

وفي هذا أن المعتزلة الذين ادعوا أن الكلام مخلوق، وأنه كسائر المخلوقات خلقه كخلق الإنسان ونحوه، أنهم لم يعتبروا بالأدلة التي بين أيديهم، ولم ينظروا في هذه النصوص التي دلالتها واضحة.

وقد سمعنا هذه القصة التي أوردها عن ذلك المعتزلي الذي جاء إلى أبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة من أهل العراق وقال له: اقرأ هذه الآية: (وكلم اللهَ موسى تكليماً) ، ليكون موسى هو المكلم ولا يكون الله متكلماً، ولكن أبا عمرو رحمه الله بين له أن ذلك لا يفيدك، فلو قرأت أنا أو أنت هذه الآية: (وكلم الله) ، لجاءتنا آية لا يمكن أن نحرفها وهي قول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:١٤٣] ، فإنها صريحة بأن الرب تعالى هو المكلم، (وكلمه ربه) ، ولهذا بهت ذلك المعتزلي ولم يرد شيئاً.

وقد اشتهر أن جمعاً من المعتزلة أولوا التكليم هنا بأنه التجريح، فقالوا: (كلم الله موسى تكليماً) يعني: جرحه، لأن الكلم: الجرح، كما في قوله: (ما من مكلوم يكلم-يعني: ما من مجروح يجرح-إلا وجاء يوم القيامة وكلمه يدمي) فادعوا أن قوله تعالى: (كلم الله موسى) يعني: جرحه بأظافير الحكمة، ولكن هذا قول باطل؛ فإن النصوص دالة على أنه هو الكلام المسموع؛ ولهذا أثبت الله أنه ناداه في قوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [الشعراء:١٠] ، وقوله تعالى: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النازعات:١٦] ، وناجاه فقال تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم:٥٢] ، والمناجاة والنداء لا يكون إلا بنداء مسموع، فكيف يئولون ذلك ويحرفونه تحريفاً لفظياً أو معنوياً؟ كذلك ثبت أن الله تعالى خاطب موسى منه إليه، وذكر خطابه في آيات، كقوله: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:٤٣-٤٦] ؛ فالله تعالى خاطبه وأسمعه ذلك الخطاب، فلابد أن يكون ذلك الخطاب بكلام مسموع، فلا يستطيع المعتزلة أن يحرفوا ذلك.

فالحاصل أن تأويلاتهم وحرصهم على صرف الدلالات لا يفيدهم لكثرة الأدلة.