للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير الإسلام والإيمان]

قال الشارح رحمه الله تعالى: [والكتاب والسنة مملوءان بما يدل على أن الرجل لا يثبت له حكم الإيمان إلا بالعمل مع التصديق، وهذا أكثر من معنى الصلاة والزكاة، فإن تلك إنما فسرتها السنة، والإيمان بين معناه الكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:٢] الآية، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:١٥] الآية، وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:٦٥] فنفي الإيمان حتى توجد هذه الغاية، دل على أن هذه الغاية فرض على الناس، فمن تركها كان من أهل الوعيد، ولم يكن قد أتى بالإيمان الواجب الذي وعد أهله بدخول الجنة بلا عذاب.

ولا يقال: إن بين تفسير النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث جبريل، وتفسيره إياه في حديث وفد عبد القيس معارضة؛ لأنه فسر الإيمان في حديث جبريل بعد تفسير الإسلام، فكان المعنى أنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، مع الأعمال التي ذكرها في تفسير الإسلام، كما أن الإحسان متضمن للإيمان الذي قدم تفسيره قبل ذكره، بخلاف حديث وفد عبد القيس؛ لأنه فسره ابتداءً، لم يتقدم قبله تفسير الإسلام، ولكن هذا الجواب لا يتأتى على ما ذكره الشيخ رحمه الله من تفسير الإيمان، فحديث وفد عبد القيس مشكل عليه.

ومما يسأل عنه: أنه إذا كان ما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة أكثر من الخصال الخمس التي أجاب بها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المذكور، فلم قال: إن الإسلام هذه الخصال الخمس؟ وقد أجاب بعض الناس: بأن هذه أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيامه بها يتم استسلامه، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده] .

الإسلام فسر بالأعمال الظاهرة التي هي الأركان الخمسة، والإيمان فسر بالأركان الستة التي هي العقائد، وعلى هذا فإذا اجتمع الإسلام والإيمان فسر الإيمان بالأعمال العقدية الغيبية، وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة.

وسبب التسمية: أن الإسلام يستدعي الاستسلام الذي هو الإذعان، فالذي يقيم الصلاة مذعن ظاهراً، والذي يؤدي الحج مذعن ظاهراً، وكذا الذي يصوم ويزكي ويتشهد مذعن وخاضع ومتواضع.

وأما الأمور العقدية القلبية فهذه خفية، تستدعي أدلة قوية، ثم بعد ذلك ترتكز في النفس، وتكون آثارها الأعمال الصالحة، وقد مر بنا أنه صلى الله عليه وسلم لما جاءه وفد عبد القيس قال لهم: (آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتؤدوا من الغنيمة الخمس) ، فأمرهم بأركان الإسلام وفسر بها الإيمان؛ وذلك لأنه لم يفسر لهم الإسلام، فجعل الإيمان هو الأعمال الظاهرة، فإذا اقتصر على الإيمان دخلت فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا اقتصر على الإسلام دخلت فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا اجتمعا فسر الإسلام بالظاهرة والإيمان بالباطنة.

الله تعالى ذكر الإيمان وأدخل فيه الأعمال الظاهرة، فجعل الجهاد -وهو من الأعمال الظاهرة- من خصال الإيمان.

كذلك قال في آية سورة النساء: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:٦٥] فجعل تحكيم الشريعة وتحكيم النبي صلى الله عليه وسلم العلامة الواضحة للإيمان، فمن لم يجعل الرسول هو الحكم فليس بمؤمن، فهذا دليل على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وإذا اقتصر على الإيمان دخلت فيه الأعمال الظاهرة والباطنة؛ وذلك لأنها نتيجته وثمرته.

أما الإسلام فيفسر بالإعمال الظاهرة؛ لأنها علاماته، ومعلوم أن الأعمال الظاهرة ليست هي الخمس فقط، ولكن هذه الخمس هي دعائمها وأسسها وأصولها، وإذا حافظ عليها المسلم حافظ على غيرها، فالأركان الخمسة الظاهرة: الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج، هذه أسس الإسلام وعموده ودعائمه وأركانه التي يتكون منها، والتي يقوم عليها، ولكن هناك خصال أخرى تعتبر مكملات، فلأجل ذلك إذا أتى بهذه الأركان احتاج إلى مكملات.

وقد ذكرنا أنهم ضربوا مثلاً للإسلام بالبناء، قال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) ، فمثله بالبناء، وأنتم تعرفون أن البناء لابد أن يكون له زوايا، فجعل الأركان هذه هي الزوايا التي يتكون منها، وهي الحيطان الأربعة المتقابلة، وهذه تعتبر أركانه لا يتم إلا بها، فهذا المكان لا يتم إلا إذا تكاملت زواياه المتقابلة، ولكن دون ذلك يحتاج إلى تكملة بقية الخصال التي هي إما أفعال وإما أقوال وهي بمنزلة المكملات.

فلو بنيت حيطان المسجد فقط دون إتمام بقية المسجد لقلنا: إنه يحتاج إلى تكملة: يحتاج إلى أبواب، ويحتاج إلى نوافذ، ويحتاج إلى إنارة، ويحتاج إلى تهوية، ويحتاج إلى فرش، ويحتاج إلى سرج، ويحتاج إلى مرافق ومتكئات وما أشبه ذلك، فكذلك الإسلام بحاجة إلى الجهاد، وبحاجة إلى الأعمال الصالحة، وبحاجة إلى ترك المنكرات كلها: ترك القتل، وترك الزنا، وترك الشرك، وترك السرقة، وترك الفساد بأنواعه وما أشبه ذلك، وكذلك يحتاج إلى بر الوالدين، وإحسان الجوار، وصلة الأرحام، وبذل السلام، وتشميت العاطس، وعيادة المريض، واتباع الجنائز وما أشبه ذلك، ولا شك أن هذه من خصال الإيمان.

فالذي يأتي بالأركان الخمسة، يطلب منه تكميل ذلك بأن تستدعي الخمسة غيرها، فيقال له: ائت بالبقية حتى تكون بذلك قد كملت الإسلام.