وأشكل ذلك على بعض الصحابة فقالوا: ما دام أن الله قد كتب علينا ونحن في صلب أبينا من هو من أهل الجنة أو من أهل النار فلماذا نعمل؟ لأنه لا نحصل إلا على ما كُتب لنا، فأجيبوا: بأنكم مكلفون ومأمورون بالعمل، مأمورون بأن تعملوا، والله تعالى هو الذي يوفق كل إنسان لما خلقه له ولما كتبه عليه قبل أن يخلقه، وقرأ -في رواية- قول الله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل:٥-١٠] .
فأهل الخير يُيَسرون لعمل يكونون به سعداء، وأهل الشر يخذلهم ويصرفهم فيعملون بعمل أهل الشر وأهل الشقاوة والعياذ بالله، ولكن مع ذلك كله فإنهم مأمورون ومنهيون، ومكلفون بأن يمتثلوا هذا الفعل، وبأن يتركوا هذا الفعل، ويعتبرون إذا فعلوا ذلك مطيعين، وإذا لم يفعلوه يعتبرون عصاة.
وعلى كل حال لا يُستبعد أن الله سبحانه عندما خلق آدم أخرج ذريته كالذر لا يُحصي عددهم إلا الله، وكل من على وجه الأرض اليوم، وكل من على وجه الأرض فيما سبق، وكل من سيولد فيما بعد، كلهم قد علم الله تعالى عددهم، وقد علم أعمارهم، وقد كتب آجالهم، كما في قوله تعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}[الحج:٧٠] ، وكما في قوله تعالى:{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك:١٤] ، وكما في قوله:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}[الحديد:٢٢] .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أول ما خلق القلم قال له: اكتب، وأن القلم كتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فقوله:(ما هو كائن) يعني: كل موجود وكل من سوف يوجد، فإنه خلقهم وخلق أعمالهم وعرف آجالهم وعرف أزمنتهم، فهو على ذلك قدير، وعلى كل شيء قدير، لا يعجزه شيء ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة.
فيؤمن الإنسان بالأمرين: يؤمن بأن الله خلق الخلق واستخرج ذرية آدم قبل أن يوجدهم، ويؤمن بأن كل إنسان رزق فطرةً وعقلاً بحيث يعرف الخير ويعرف الشر، وأن تلك الفطرة إما غَيَّرتها الأهواء والشهوات والمجتمعات، إما بقيت على حالتها وفطرتها، ولا يحمله ذلك على أن يعتمد على القضاء والقدر ويستسلم ويدع العمل، بل عليه أن يعمل، (فكل ميسر لما خلق له) .