[الفضل الخاص حقيقته ومعناه]
وأما الفضل الخاص فهو الهداية والتوفيق والمنة على العبد، يختص برحمته من يشاء ولا يعاتب على تخصيصه، فلا يقال: لماذا خصّ هذا بالهداية دون هذا؟ كما لا يقال: لماذا أغنى هؤلاء وأفقر هؤلاء؟ ولا يقال: لماذا أصح هذا وأمرض هذا؟! ولا يجوز الاعتراض على تصرف الله تعالى، فلا يقال: فلان لا يستحق أن يبتلى! ولا يستحق أن يمرض! ولا يستحق أن يستقيم! بل الأمر بيد الخالق سبحانه، فله الحكمة أن هدى هؤلاء وأضل الآخرين، وأنعم على هؤلاء وخذل غيرهم، وأصح هذا وأمرض هذا، وأعطى هذا ومنع هذا.
الآيات التي ذكر الشارح ظاهرة الدلالة في أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من خلقه.
الفضل: هو العطاء والنعمة، وهو بيد الله سبحانه يؤتيه من يشاء ويمنعه من يشاء.
وليس الفضل خاصاً بالمال، ولا بالشهوات، ولا بالنعم، ولا بالخيرات، ولا بالمال والبنين، بل الفضل في الأصل هو الهداية والإلهام والتوفيق للعبادة، وللإيمان الصادق، قال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:٢١] فلا يعترض على الله في أن خص بالفضل قوماً دون قوم.
ولما قال المكذبون لرسلهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم:١٠-١١] لا شك أن هدايته لهم منة عليهم، والله عزوجل له المن وله الفضل، كما دعا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة: (لا إله إلا الله له النعمة وله الفضل وله المن وله الثناء الحسن) .
فالفضل يعني: العطاء والهداية والتوفيق، والمن يعني: امتنان الله على خلقه، يمتن عليهم بما يشاء، بمعنى: أن له المنة عليهم بالإعطاء والتفضل.
فإذاً الله سبحانه يعطي هؤلاء دون هؤلاء ولا يقال: إنه ظلم هذا دون هذا! فمثلاً: قد يعظم أجر هذا ويضاعف له الحسنات أكثر من غيره، لماذا؟ الله أعلم، لا شك أنه رآه أهلاً.
نتذكر قول الله تعالى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب:٣٠-٣١] فتخصيصهن أن لهن الأجر مرتين زيادة على غيرهن، ذلك فضل الله، لكن بالمقابل إذا أتت إحداهن بذنب فإنها تعاقب ويضاعف عليها العذاب ضعفين؛ وذلك لأنها ذات منزلة وذات فضيلة، فلا يليق بها أن تفعل الذنب الذي تلام عليه.
فإذاً تخصيص بعض عباده في مضاعفة الثواب فضل منه ومنة، مع أنا نعرف أن جميع الخلق كلهم سواسية بالنسبة إلى الله سبحانه، ليس بينه وبين خلقه حسب ولا نسب، ولا يعطي هؤلاء لكونهم ذوي شرف وذوي فضيلة، ولا يمنع هؤلاء لكونهم ذوي منزلة ساقطة أو نسب دنيء أو نحو ذلك.
فرب شخص يكون من أشراف الناس، ومن مشاهيرهم، ومن أفاضلهم، ومن ذوي النسب الرفيع، ومع ذلك يكون بعيداً عن الخير، بعيداً عن الهداية.
وآخر يكون من ذوي النسب الساقط الذي لا يؤبه له، ولكن يكون ذا فضل ومنزلة ورفعة وشرف؛ وذلك بالتقوى، ولذلك يقول بعضهم: ألا إنما التقوى هي العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والسقم وليس على عبد تقي نقيصة إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم ويقول آخر أيضاً: لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الشرك الشقي أبا لهب فـ أبو لهب من أشراف قريش وضعه الشرك، وسلمان من فارس ليس من العرب، ومع ذلك رفعه الإسلام.
وهذا لا شك أنه محض عطاء من الله وفضل، وقد ذكرنا أن لذلك أسباباً، وأن من أسباب الهداية: كون العبد يرغب إلى ربه، ويسأله، ويرفع إليه أكف الضراعة، ويتملقه، ويدعوه بأوقات الإجابة، يسأله هداية قلبه وهداية روحه وهداية فطرته، يسأله الإقبال بقلبه إلى ربه، فالدعاء من أفضل الأسباب، إذا رأيت في قلبك شيئاً من القسوة، ورأيت في قلبك إعراضاً عن الخير وكراهية، سألت ربك أن يلينه حتى يتقبل الموعظة وأن يقبل على فعل الخير.
وإذا رأيت من نفسك تثاقلاً عن الطاعة، سألت ربك ورغبت إليه أن يهديك وأن يعينك على الطاعة، فذلك سبب، والله تعالى جعل لأحكامه وجعل لقضاياه وما قدره أسباباً مشاهدة فهذا منها.
ومن الأسباب: كثرة العبادات، وكثرة الطاعات، فالعبد إذا أكثر من الحسنات وأكثر من القربات كانت سبباً في محبته للخيرات، وفي بغضه للسيئات: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:١١٤] إن الحسنة تجر إلى أختها، والسيئة تجر إلى مثلها، فهذه بلا شك أسباب.
كما أن للشقاوة أسباباً وللضلالة أسباباً، بعد خذلان الله وبعد تخليته بينه وبين نفسه، فلا شك أن كثرة المعاصي تقسي القلوب، ولا شك أن الإعراض عن العبادات والإعراض عن الأذكار تقسيها وتصدها عن الخير، وتثقل عليها الطاعات.
فلا شك أن للهداية أسباباً وللضلالة أسباباً، والجميع كله داخل تحت إرادة الله تعالى، وتحت مشيئته وتقديره، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.