للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة الروح]

قال الشارح رحمه الله: [وقد اختلف في حقيقة النفس ما هي؟ وهل هي جزء من أجزاء البدن أو عرض من أعراضه أو جسم ساكن له مودع فيه، أو جوهر مجرد؟ وهل هي الروح أو غيرها؟ وهل الأمارة واللوامة والمطمئنة نفس واحدة أم هي ثلاثة أنفس؟ وهل تموت الروح أو الموت للبدن وحده؟ وهذه المسائل تحتمل مجلداً، ولكن أشير إلى الكلام عليها مختصراً إن شاء الله تعالى.

فقيل: الروح قديمة، وقد أجمعت الرسل على أنها محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة، وهذا معلوم بالضرورة من دينهم أن العالم محدث، ومضى على هذا الصحابة والتابعون، حتى نبغت نابغة ممن قصر فهمه في الكتاب والسنة، فزعم أنها قديمة، واحتج بأنها من أمر الله، وأمره غير مخلوق، وبأن الله أضافها إليه بقوله: {قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:٨٥] ، وبقوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:٢٩] كما أضاف إليه علمه وقدرته وسمعه وبصره ويده، وتوقف آخرون، واتفق أهل السنة والجماعة أنها مخلوقة، وممن نقل الإجماع على ذلك محمد بن نصر المروزي وابن قتيبة وغيرهما، ومن الأدلة على أن الروح مخلوقة قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:١٦] فهذا عام لا تخصيص فيه بوجه ما، ولا يدخل في ذلك صفات الله تعالى فإنها داخلة في مسمى اسمه، فالله تعالى هو الإله الموصوف بصفات الكمال، فعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وجميع صفاته داخل في مسمى اسمه، فهو سبحانه بذاته وصفاته الخالق وما سواه مخلوق، ومعلوم قطعاً أن الروح ليست هي الله ولا صفة من صفاته، وإنما هي من مصنوعاته، ومنها قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [الإنسان:١] ، وقوله تعالى لزكريا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم:٩] ، والإنسان اسم لروحه وجسده، والخطاب لزكريا لروحه وبدنه.

والروح توصف بالوفاة والقبض، والإمساك والإرسال، وهذا شأن المخلوق المحدث.

وأما احتجاجهم بقوله: (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) فليس المراد هنا بالأمر الطلب، بل المراد به المأمور، والمصدر يذكر ويراد به اسم المفعول، وهذا معلوم مشهور] .

كلمتا الروح والنفس الصحيح أنهما مترادفتان، الروح هي النفس، وقد اختلف في حقيقة الروح ما هي، إذا مات الميت وخرجت روحه لا نبصرها، مع أننا متيقنون أنها خرجت، وكذلك الملائكة أرواح ينزلون ويقبضونها ونحن لا نراهم؛ لأنهم أرواح، كذلك الشياطين أرواح شريرة، يقول تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:٢٧] نحن لا نرى الشياطين، مع أن الشيطان يدخل في الإنسان ويجري منه مجرى الدم، ويوسوس في صدره ولا نراه، لكنه ينخنس إذا ذكر الله، ولهذا سماه الله: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:٤] .

وأقرب مثال الجن، فهم أرواح، وإذا سلط الله الجني على الإنسي فإنه يلابسه حتى يغلب على جسده، ويصير كأنه هو روحه، فهل نحن نرى هذا الجني إذا أتى أو إذا خرج؟ لا نراه، نسمعه إذا تكلم وهو ملابس لذلك الإنسي، ينطق ويتكلم، ويخرج عندما يعذب مثلاً، ولا نراه إذا جاء ليدخل، ولا نراه إذا خرج.

إذاً: هو روح بلا جسد، ولعله يأتينا كلام في حقيقة الروح وماهيتها.

هل الروح مخلوقة أو غير مخلوقة؟ بعض الفلاسفة يقول: إنها غير مخلوقة وإنها قديمة، والفلاسفة هم الذين يقولون: إن هذا الإنسان ليس له مبدأ، ينكرون أن الله خلق آدم من تراب، ويقولون: إن هذا الإنسان قديم، وإن الأرض قديمة ولم يسبقها عدم، وينكرون أيضاً الحشر والمعاد، فيقولون: ليس هناك حشر، وليس هناك نشر، وليس هناك قيامة، ولا جنة ولا نار، إنما جنس البشر يتوالد ويبقى على الأرض دائماً وأبداً، كما أنه عليها منذ القدم، فكذلك يبقى عليها أبداً، هؤلاء الفلاسفة ينكرون خلق الروح، ويقولون: إن الروح غير مخلوقة وليست محدثة، بل هي باقية وقديمة وليس لها مبدأ، ويستدلون بهذه الآية في سورة الإسراء: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:٨٥] والسؤال إنما هو عن الماهية، ما هي الروح؟ ولما كانت حقيقتها لا ترى ولا توصف أجابهم الله بأنها من أمره، وأنكم لا تعلمونها ولا يمكن أن تتصوروها؛ ولذلك قال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:٨٥] ، فليس المراد أنها صفة من صفاته، بل المراد أنها من أمره، أي: مخلوقة بأمره، وكذلك إضافتها إلى الله في قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:٢٩] ليس المراد أن الروح صفة من صفات الله، أو أنها من ذات الله، بل المراد من الأرواح التي خلقتها، وكذلك وصف الله عيسى بقوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:١٧١] أي: روح من الأرواح التي خلقها، وليس المراد أنه من ذات الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

فبكل حال نعرف أن هذه الروح التي بين جنبي الإنسان مخلوقة كسائر المخلوقات، ولكن لا تدرك كيفيتها ولا ماهيتها.