[الاتفاق في التسمية بين ما للخالق والمخلوق لا يلزم منه المشابهة]
قال رحمه الله: [فعلم بهذه الأدلة اتفاقهما من وجه واختلافهما من وجه، فمن نفى ما اتفقا فيه كان معطلا قائلا بالباطل، ومن جعلهما متماثلين كان مشبهاً قائلاً بالباطل والله أعلم؛ وذلك لأنهما وإن اتفقا في مسمى ما اتفقا فيه، فالله تعالى مختص بوجوده وعلمه وقدرته وسائر صفاته، والعبد لا يشركه في شيء من ذلك، والعبد أيضاً مختص بوجوده وعلمه وقدرته، والله تعالى منزه عن مشاركة العبد في خصائصه] .
أي: أن الخالق والمخلوق مشتركان في الأسماء، فالخالق شيء والمخلوق شيء، الخالق موجود والمخلوق موجود، الخالق ثابت والمخلوق ثابت، وكذلك في بعض الصفات، يقال مثلاً: الله حي، والإنسان حي، وما أشبه ذلك، لكن هذا الاتفاق لا يلزم منه التشابه، بل بينهما فرق كبير، إذا عرفنا دلالة العقل على وجود خالق قدير قديم أزلي قادر لا يعجزه شيء، ولا يخرج عن قدرته شيء، عرف بذلك أن المخلوق ينافي هذه الصفات، فهو محدث وفقير إلى آخر ما تقدم.
فيثبت بذلك وجود الخالق، واتصافه بالصفات التي يتصف بها المخلوق، ولكن لا يلزم التشابه بين صفة الخالق وصفة المخلوق، كما لا يلزم التشابه بين الذاتين.
قال رحمه الله: [وإذا اتفقا في مسمى الوجود والعلم والقدرة، فهذا المشترك مطلق كلي يوجد في الأذهان لا في الأعيان، والموجود في الأعيان مختص لا اشتراك فيه، وهذا موضع اضطرب فيه كثير من النظار، حيث توهموا أن الاتفاق في مسمى هذه الأشياء يوجب أن يكون الوجود الذي للرب كالوجود الذي للعبد] .
أي: وهذا خطأ، فإنه إذا اتفق اثنان في اسم لم يلزم أن يكون هذا كهذا، فإننا نسمي الشجر حياً، ونسمي الحيوان حياً، فالبعير حي والإنسان حي، والشجر حي، ولا يلزم أن يكون هذا كهذا، ويقال: موجود في هذه البلد جبال، فالجبال موجودة والحيوانات موجودة، فاتفقت في كلمة الوجود، ولا يلزم أن تكون الجبال كالحيوانات، بل بينها فرق، فما دام كذلك فلا يلزم إذا قلنا: الله حي والإنسان حي، أن يكون هناك تشابه بينهما، فليست هذه الحياة كهذه الحياة، ولا العلم كالعلم، ولا القدرة كالقدرة، وعرف بذلك ضلال هذه الطوائف في هذه التقديرات.
قال رحمه الله: [وطائفة ظنت أن لفظ الوجود يقال بالاشتراك اللفظي، وكابروا عقولهم؛ فإن هذه الأسماء عامة قابلة للتقسيم، كما يقال: الموجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم وحادث، ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، واللفظ المشترك كلفظ المشتري الواقع على المبتاع والكوكب، لا ينقسم معناه، ولكن يقال: لفظ المشتري يقال على كذا أو على كذا، وأمثال هذه المقالات التي قد بسط الكلام عليها في موضعه] .
وهذه طوائف من المتكلمين يبالغون في مثل هذه الأشياء، ويرد عليهم فيقال مثلاً: إن هناك وجوداً في الأعيان ووجوداً في الأذهان، والمعنى الموجود في الأذهان هو ما يتخيله الإنسان بعقله، ولكن قد يتخيل وقد يصور بعقله أشياء غير حقيقية، فعرف بذلك أن الوجود في الأذهان لا يلزم منه التماثل، فإذا مثل الإنسان في ذهنه شيئاً أو تخيل أشياء لم يلزم أن تكون واقعية.
وأما الذين قالوا إن الوجود لفظ مقول بالاشتراك اللفظي، فلا شك أن هؤلاء أيضاً أخطئوا، ومعلوم أن هناك كلمات تشترك فيها موجودات ولكن تختلف المسميات، فعندنا كلمة (المشتري) تقع على الذي يشتري منك سلعة، وتقع على الكوكب المشهور، فيقال: هذا الكوكب اسمه المشتري، ومعلوم أن هذا كوكب وهذا إنسان.
وأما قولهم إن كلمة (موجود) مشتركة لفظاً، فهذا خطأ، فإن اللسان الذي تكلمت به العرب تدل على أن الموجود هو الذي له وجود في الأعيان ويدرك بالعين.
ولا يقال للموجود في الذهن إنه موجود حيث إنه لا يدرك بالأعيان، فلا بد أن يكون الوجود مدركاً بالأعين لا مقدراً في الذهن، فظهر بذلك خطأ الذين يقولون إنه من باب الاشتراك اللفظي.