للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة الدنيا الزائلة]

أخبر الله تعالى بأن هذه الدنيا وما عليها حقيرة هينة، لا تستحق أن يهتم لها الإنسان هذا الاهتمام فقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد:٢٠] ، أي: هذه أكثر ما يشتغل به أهلها، ثم ضرب لها مثلاً في انقضائها، كمثل غيث أعجب الكفار نباته، فالغيث إذا نزل فإن الكافرين بالله هم الذين تعجبهم زهرة الدنيا، وهم الذين تعجبهم زينتها وما عليها؛ لأن رغبتهم في الدنيا، وليس لهم رغبة في الآخرة، ومن العلماء من يقول: الكفار هم الزراع، ولكن الأولى أنهم الكفار بالله، فهم الذين يعجبهم نباته، وبعد مدة ماذا يكون هذا النبات؟ لا شك أنه ييبس ويصير حطاماً وتذروه الرياح، فهكذا هذه الدنيا تثمر لأهلها وتخضر وتقبل عليهم، ثم بعد ذلك تدبر عنهم ولا تقبل، ويذوقون الضر كما ذاقوا الخير، وتنزع عنهم أو ينزعون عنها، ولسان حالها يقول كما أنشد بعضهم: هي الدنيا تقول بملئ فيها حذار حذار من بطشي وفتكي فلا يغرركم طول ابتسامي فقولي مضحك والفعل مبكي فهذه حالة هذه الدنيا، إذا فكر العباد بما عليها علموا أنها متاع فقنعوا منها باليسير، وشمروا للدار الآخرة، ونصبوا الأقدام، وهجروا التواني والتكاسل الذي يعوقهم عن السير في الآخرة، وهجروا الفتور الذي يبطل هممهم، وأنصبوا أبدانهم وأجسامهم في طاعة الله تعالى، وعلموا أن الدنيا فانية وقنعوا منها باليسير، وجعلوا رغبتهم في الآخرة، ووثقوا بقول الله تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:٣٠] ، هذه حالة المصدقين.

وأما حال المكذبين فقد سمعنا ما ذكر الله تعالى عنهم في الآيات التي في سورة الإسراء، وهي قول الله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} [الإسراء:٤٧-٤٨] ، ثم يقول تعالى: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:٤٩-٥١] ، فهذه حجة عليهم: أن الذي يعيدكم هو الذي فطركم أول مرة، {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ} أي: متى هذا البعث؟ {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} [الإسراء:٥١] ، {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:٥٢] .

إذا دعاهم وأخرجهم تذكروا هيئتهم الأولى، وقالوا: كم لبثتم؟ يظنون أنهم ما لبثوا في الدنيا إلا أياماً قليلة، يوماً أو بعض يوم، كما في آية أخرى، يقول تعالى عنهم: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} [طه:١٠٣] ، وأمثلهم وأعقلهم يقول: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً} [طه:١٠٤] ، يتقالُّون الزمن الذي لبثوه ومكثوه في الدنيا، وما ذاك إلا أنهم لما كانوا في سرور، مضت عليهم الأيام قصيرة، وبلا شك أنهم سيلقون بعد ذلك السرور جزاء ينسيهم ما كانوا فيه من قبل، فإنهم يعذبون في الآخرة أو يثابون في الآخرة، ورد في بعض الأحاديث: (يجاء بأشد الناس عذاباً في الدنيا من أهل الجنة فيغمس في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت سوءاً قط؟ هل مرت بك شدة قط؟ فيقول: لا يا رب! ما رأيت سوءاً قط، وما مرت بي شدة قط، ويجاء بأنعم الناس في الدنيا من أهل النار فيغمس في النار غمسة، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مرت بك نعمة قط؟ فيقول: لا يا رب! ما رأيت خيراً وما مرت بي نعمة) ، نسي النعمة التي كانت في الدنيا؛ وذلك لأن لحظة واحدة في النار تنسيه ما كان فيه من النعيم في الدنيا، ويضرب بعضهم مثل هذا فيقول: مسرة أحقاب تلقيت بعدها مساءة يوم إنها شبه أنصابِ فكيف بأن تلقى مسرة ساعة وراء تقضيها مساءة أحقابِ لو أن إنساناً نُعِّمَ في الدنيا عشرات السنين، في ألذ وأنعم ما يكون من الحياة والبهجة، ثم بعد ذلك ناله عذاب ساعة واحدة؛ نسي ذلك النعيم، ونسي تلك البهجة، ونسي ذلك السرور، فكيف ونعيم الدنيا بأسرها قليل! ونعيمك الذي تناله أنت في عمرك أقل من القليل؟ كيف إذا تعقب هذا النعيم العذاب المستمر الذي لا انقضاء له ولا انقطاع وهو عذاب الآخرة، عذاب النار وبئس القرار، فإنه هو الذي لا انقضاء له أبداً، فهذا يبين لك أن الدنيا قليل متاعها، وأن حظ الإنسان منها أقل من القليل.