[الفرق بين لفظ (التصديق) و (الإيمان) فيما يتعلق بخبر الغيب والشهادة]
لا يستعمل بدل كلمة الإيمان التصديق، والدليل عليه قوله تعالى في سورة العنكبوت: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:٢٦] ، مع أن التصديق يتعدى بـ (الباء) ، فيقال: صدقت به، ولا يقال: صدقت له.
وأنت حين تتكلم عن شخص تقول: صدقت فلاناً، وصدقت بخبره، ولا تقول: صدقت له، فكذلك قوله: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ} [يونس:٨٣] (آمن لموسى) ولم يقل: فما آمن به؛ لأن المراد: اتبعوه وعملوا بما جاء به، فهذا دليل على أن الإيمان أصبح مغايراً للتصديق، وليس مرادفاً له، فعرف بذلك أن الاستدلال بأن الإيمان في اللغة: هو التصديق، لا يصلح دليلاً على أن الأعمال ليست من مسمى الإيمان.
قال الشارح رحمه الله: [فالحاصل أنه لا يقال: قد آمنته، ولا صدقت له.
إنما يقال: آمنت له، كما يقال: أقررت له، فكان تفسيره بـ (أقررت) ، أقرب من تفسيره بـ (صدقت) ، مع الفرق بينهما؛ لأن الفرق بينهما ثابت في المعنى، فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب، يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال له: كذبت.
فمن قال: السماء فوقنا.
قيل له: صدقت.
وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب، فيقال لمن قال: طلعت الشمس: صدقناه، ولا يقال: آمنا له، فإن فيه أصل معنى الأمن والائتمان إنما يكون في الخبر عن الغائب، فالأمر الغائب هو الذي يؤتمن عليه المخبِر، ولهذا لم يأت في القرآن وغيره لفظ (آمن له) إلا في هذا النوع.
ولأنه لم يقابل لفظ الإيمان قط بالتكذيب كما يقابل لفظ التصديق، وإنما يقابل بالكفر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق، ولكن لا أتبعك، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك؛ لكان كفراً أعظم، فعلم أن الإيمان ليس التصديق فقط، ولا الكفر هو التكذيب فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً، ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب، فكذلك الإيمان، يكون تصديقاً وموافقة وانقياداً، ولا يكفي مجرد التصديق، فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان.
ولو سلم الترادف فالتصديق يكون بالأفعال أيضاً، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العينان تزنيان، وزناهما النظر، والأذن تزني، وزناها السمع -إلى أن قال:- والفرج يصدق ذلك ويكذبه) .
وقال الحسن البصري رحمه الله: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في الصدور وصدقته الأعمال) .
ولو كان تصديقاً فهو تصديق مخصوص كما في الصلاة ونحوها كما قد تقدم، وليس هذا نقلاً للفظ ولا تغييراً له، فإن الله لم يأمرنا بإيمان مطلق، بل بإيمان خاص، وصفه وبينه.
فالتصديق -الذي هو الإيمان- أدنى أحواله أن يكون نوعاً من التصديق العام، فلا يكون مطابقاً له في العموم والخصوص، من غير تغير اللسان ولا قلبه، بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفاً من العام والخاص، كالإنسان الموصوف بأنه حيوان ناطق.
ولأن التصديق التام القائم بالقلب مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح، فإن هذه من لوازم الإيمان التام، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم.
ونقول: إن هذه لوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة، وتخرج عنه أخرى، أو إن اللفظ باق على معناه في اللغة، لكن الشارع زاد فيه أحكاماً، أو أن يكون الشارع استعمله في معناه المجازي، فهو حقيقة شرعية، مجاز لغوي، أو أن يكون قد نقله الشارع، وهذه أقوال لمن سلك هذا الطريق] .
كل هذا من البيان والإيضاح للفرق بين التصديق والإيمان، وأنهما ليسا مترادفين من كل جهة، ولو كانا مترادفين في اللغة فإنهما غير مترادفين في الشرع، فمعلوم أن التصديق ضده التكذيب، يقال: صادق أو كاذب، ويقال: صدقته أو كذبته، فالتصديق ضده التكذيب.
أما الإيمان فليس ضده التكذيب، بل ضده الكفر، فيقال: آمن أو كفر، مؤمن وكافر، فأصبح له ضد غير التصديق، فدل على أنه ليس هو التصديق من كل جهة، والذين قالوا: الإيمان والتصديق معناهما واحد، يقال لهم: قد دلت اللغة على التفريق بينهما كما في الأمثلة التي ذكرها الشارح، فإذا قال: طلعت الشمس.
قيل: صدقت، أو كذبت.
ولا يقال: آمنت به، ولا آمنا بخبره، بل يقال: صدقناه، وأصبح الإيمان اسماً للإيمان بالشيء الغائب؛ لأن الله أخبر بذلك في قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:٣] أي: يجزمون به ويعتقدونه وإن كان غائباً لم يروه إلى آخر ما ذكره الشارح.
وبكل حال: فالإيمان في الأصل وفي اللغة: هو التصديق، ولكن نقله الشارع من اللغة، وجعله مسمى شرعياً، فأصبحت الأعمال من مسمى الإيمان، فمن آمن باللسان، وصرح بسب الدين، وبسب الله، وبسب الرسل، وبكلمات الكفر -ونحو ذلك- وهو مع ذلك يدعي أو يزعم أنه من أهل الإيمان، وأن قلبه مؤمن؛ لم نصدقه في ذلك، بل عاملناه بما يقول؛ وذلك لأنا نعمل بالظاهر، كما روي (أنه صلى الله عليه وسلم استأذنه رجل في قتل بعض المنافقين، فقال: أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: يشهد، ولا شهادة له.
قال: أليس يشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: يشهد، ولا شهادة له.
قال: أليس يصلي؟ قال: يصلي، ولا صلاة له.
قال: أولئك الذين نهيت عن قتلهم) يعني: أنه أمر بأن يعمل بالظاهر.
ولما استأذنه خالد بن الوليد أن يقتل ذا الخويصرة الذي قال: (اعدل يا محمد! فقال: ألا نقتله؟ قال: لعله يصلي.
فقال: وكم من مصلٍ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! فقال صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم) يعني: أننا إنما نعامله بما يظهر منه، فلأجل ذلك إذا قال بعضهم: إن قلبي ممتلئ إيماناً، إن قلبي مؤمن.
قلنا له: صدق هذا الإيمان بعلامة عليه وهو العمل، فإنه من مكملاته، فإذا لم تعمل، بل خالفت ما تقوله بما تعمله كذبناك، ولم نقبل قولك، فلو كنت صادقاً لعملت، كيف تزعم أنك تحب الله وتحب الرسول وتحب الشريعة والإسلام، ومع ذلك لا تأتي بعلامة على هذه المحبة؟! تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا عجيب في الفعال بديع لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع والأثر الذي روي عن الحسن مشهور، وهو أنه قال: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال) ، فنفى أن يكون بالتحلي، يعني: الحلة الظاهرة كاللباس أو الهيئة أو الشعور أو المظهر أو المقال أو السكنى فيما بين المسلمين أو نحو ذلك، وكذلك التمني، يعني: الألفاظ، يقول: أنا مؤمن، أنا من أهل الإيمان، ويمدح بذلك نفسه، ليس ذلك هو حقيقة الإيمان، الإيمان في الحقيقة هو ما امتلأ به القلب، ثم ظهرت آثاره على الأعمال، أي: صدقته الجوارح بأعمالها.