للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأدلة العقلية على علو الله سبحانه]

قال الشارح رحمه الله تعالى: [وإنما يثبت هذا المعنى من الفوقية في ضمن ثبوت الفوقية المطلقة من كل وجه، فله سبحانه وتعالى فوقية القهر، وفوقية القدر، وفوقية الذات، ومن أثبت البعض ونفى البعض فقد تنقص.

وعلوه تعالى مطلق من كل الوجوه، فإن قالوا: بل علو المكانة لا المكان، فالمكانة: تأنيث المكان، والمنزلة: تأنيث المنزل، فلفظ (المكانة والمنزلة) تستعمل في المكانات النفسانية والروحانية، كما يستعمل لفظ المكان والمنزل في الأمكنة الجسمانية، فإذا قيل: لك في قلوبنا منزلة، ومنزلة فلان في قلوبنا، وفي نفوسنا أعظم من منزلة فلان، كما جاء في الأثر: (إذا أحب أحدكم أن يعرف كيف منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله في قلبه، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه) ، فقوله: (منزلة الله في قلبه) : هو ما يكون في قلبه من معرفة الله ومحبته وتعظيمه وغير ذلك، فإذا عرف أن (المكانة والمنزلة) تأنيث المكان والمنزل، والمؤنث فرع على المذكر في اللفظ والمعنى، وتابع له، فعلو المثل الذي يكون في الذهن يتبع علو الحقيقة، إذا كان مطابقاً كان حقاً، وإلا كان باطلاً.

فإن قيل: المراد علوه في القلوب، وأنه أعلى في القلوب من كل شيء.

قيل: وكذلك هو، وهذا العلو مطابق لعلوه في نفسه على كل شيء، فإن لم يكن عالياً بنفسه على كل شيء كان علوه في القلوب غير مطابق، كمن جعل ما ليس بأعلى أعلى.

وعلوه سبحانه وتعالى كما هو ثابت بالسمع، ثابت بالعقل والفطرة، أما ثبوته بالعقل فمن وجوه: أحدها: العلم البديهي القاطع بأن كل موجودين، إما أن يكون أحدهما سارياً في الآخر، قائماً به كالصفات، وإما أن يكون قائماً بنفسه بائناً من الآخر.

الثاني: أنه لما خلق العالم، فإما أن يكون خلقه في ذاته أو خارجاً عن ذاته، والأول باطل.

أما أولاً: فبالاتفاق، وأما ثانياً: فلأنه يلزم أن يكون محلاً للخسائس والقاذورات تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

والثاني: يقتضي كون العلم واقعاً خارج ذاته، فيكون منفصلاً، فتعينت المباينة؛ لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه غير معقول.

الثالث: أن كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه يقتضي نفي وجوده بالكلية؛ لأنه غير معقول، فيكون موجوداً إما داخله وإما خارجه، والأول باطل، فتعين الثاني، فلزمت المباينة] .

العلو على ثلاثة أنواع: علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر.

وكذلك الفوقية: فوقية القدر، وفوقية القهر، وفوقية الذات.

وفوقية القدر مثل أن يقال: الذهب فوق الفضة.

يعني: فوقها قدراً، هذه فوقية القدر، وفوقية القهر: كأن يقال: الأمير فوق الرعية.

يعني: فوقية قهر، أي: قاهراً لهم.

وفوقية الذات كأن يقال: الأمير فوق الكرسي.

يعني: أنه فوقه بذاته، فنثبت لله تعالى الفوقية بأنواعها، والعلو بأنواعه، وإذا أثبتنا لله فوقية الذات فإننا نثبت مع ذلك قربه ومعيته ومراقبته لعباده، وكونه لا تخفى عليه خافية، بل هو قريب منهم كما أخبر عن نفسه بقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:١٨٦] .

فالذين تأولوا أن قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:١٨] ، وقالوا: المراد: فوقية الغلبة، واستدلوا بكلمة (القهر) ، يرد عليهم بأن هذا نوع من أنواع الفوقية، وقد دل على النوع الثاني قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:٥٠] فإن هذه الآية لا تحتمل أنها فوقية القهر، بل هي فوقية الذات.

يعني: أنهم يخافون ربهم، وربهم فوقهم، ومع ذلك فهو مطلع عليهم وقريب منهم.

كذلك (العلو) قد يستعمل بمعنى: الغلبة، كما حكى الله عن فرعون أنه قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤] ، فأراد بالعلو هنا: الغالب.

يعني: أنا الغالب، وأنا القاهر، وأنا المتصرف، وأنا المالك، فهذا نوع من أنواع العلو، فالله تعالى وصف نفسه بقوله: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:٢٠] ، فنقول: (الأعلى) علو غلبة، وعلو قهر، وعلو قدر وذات، فله أنواع العلو كلها، ولا يلزم من ذلك أن يكون محتاجاً إلى شيء من مخلوقاته، بل هو غني عن العرش وما دونه كما تقدم.

وصفة العلو دل عليها العقل والفطرة، كما دل عليها النقل، فالنصوص التي وردت فيها أكثر من أن تحصر، وكلها دالة على صفة العلو، والفطرة والعقل تدل على صفة العلو عند كل عاقل، أما صفة الاستواء فدل عليها النقل، فدلت عليها النصوص والآيات الصريحة التي لا تحتمل التأويل، وقد ذكر العلماء في تفسير آيات الاستواء ما يدل على أنهم متفقون على دلالتها على العلو، حيث إنها عديت بـ (على) كما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] فكلمة (على) تدل على الفوقية، أي: فوق العرش.