[عدم تحقق الإيمان بالقول بدون العمل]
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه: أنه عاص لله ورسوله، مستحق للوعيد، لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال: لما كان الإيمان شيئاً واحداً فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما! بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبرائيل وميكائيل عليهم السلام!! وهذا غلو منه؛ فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه، فمنهم الأخفش والأعشى، ومن يرى الخط الثخين دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها، ومن يرى عن قرب زائد على العادة، وآخر بضده.
ولهذا -والله أعلم- قال الشيخ رحمه الله: وأهله في أصله سواء.
يشير إلى أن التساوي إنما هو في أصله، ولا يلزم منه التساوي من كل وجه، بل تفاوت درجات نور لا إله إلا الله في قلوب أهلها لا يحصيها إلا الله تعالى، فمن الناس من نور لا إله إلا الله في قلبه كالشمس، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري، وآخر كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف.
ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور الإيمان والتوحيد علماً وعملاً، وكلما اشتد نور هذه الكلمة وعظم أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته، بحيث إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف شهوة ولا شبهة ولا ذنباً إلا أحرقه، وهذه حال الصادق في توحيده، فسماء إيمانه قد حرس بالرجوم من كل سارق.
ومن عرف هذا عرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله) ، وقوله: (لا يدخل النار من قال: لا إله إلا الله) ، وما جاء من هذا النوع من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم منسوخة، وظنها بعضهم قبل ورود الأوامر والنواهي، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود، ونحو ذلك] .
القول بأن الأعمال ليست من الإيمان يحتج أهله بأنهم إذا حققوا الاعتقاد نتجت عنه الأعمال وأثمرت، وقد يستدلون بعطف الأعمال على الإيمان في مثل قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:٢٢٧] .
و
الجواب
أن المراد بالإيمان هنا: أصله، والمراد بالأعمال: نتيجته وثمرته، أو المراد أكثروا من الأعمال الصالحة، وبكل حال فالأعمال لابد أنها داخلة في الإيمان؛ وذلك لأن الإيمان -الذي هو قوة اليقين وقوة التصديق- له علامات وله آثار وله ثمار، ومن أرفعها وأعلاها: ظهورها على بدن صاحبها.
فنقول على هذا: كلها إيمان، فإذا رأيناه يغض بصره عن الإثم وعن العورات، قلنا: هذا هو الإيمان، وإذا رأيناه يصون سمعه عما لا يحل؛ قلنا: هذا هو الإيمان، وإذا رأيناه يحفظ لسانه عن الكلام القبيح والسيئ، أو سمعناه يتلفظ بالذكر وبالدعاء وبالنصح وبالتعليم؛ قلنا: هذا هو الإيمان، يعني: ظهر الإيمان عليه، وإذا رأينا زهده وورعه، وتقلله من المشتبهات، وبعده عن الآثام، قلنا: هذا هو الإيمان، أو هذا هو المؤمن، وأشباه ذلك.
وأما الأدلة التي وردت في نجاة أهل التوحيد -أهل كلمة الإخلاص- كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) ، وقوله: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه، وحسابه على الله) وأخبر عن شفاعته في يوم القيامة أنها تنال من قال: (لا إله إلا الله) خالصاً من قلبه، وأشباه ذلك، هذه الأحاديث تمسك بها أهل الإرجاء -الذين غلبوا جانب الرجاء- فقالوا: إنه يكفي أن يقول: لا إله إلا الله، ويكفي أن ينوي الإخلاص، ولا يشترط أن يعمل، ولا يشترط أن يكف عن السيئات، حيث لم يشترط ذلك في هذه الأحاديث.
ولكن هذا القول خاطئ، والصواب: أن من قالها فإنه لابد أن يعمل بموجبها؛ فإن لا إله إلا الله قد قيدت بالقيود الثقال، ولها شروط سبعة ذكرت في قول الشاعر: علم يقين وإخلاص وصدقك مع محبة وانقياد والقبول لها وبعضهم زاد شرطاً ثامناً، ونظمه بقوله: وزيد ثامنها الكفران منك بما سوى الإله من الأنداد قد ألِهَ فما دام أن هذه الشهادة قد قيدت بهذه القيود فلابد أن يتبعها العمل، وإلا فلا يكون القول صادقاً، وعرفنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أخبر بنجاة أهل هذه الكلمة، فإنما أراد أهلها الذين تقع في قلوبهم موقعاً ينتج عنه أثر ونتيجة، وهذا الأثر هو العمل، فإذا قالوا: لا إله إلا الله، أي: لا معبود إلا الله؛ عبدوه بكل أنواع العبادة، فذلك هو التأله، وتركوا معصيته، وذلك -أيضاً- من التأله، وأعرضوا عما سواه، وذلك -أيضاً- من التأله له وترك التأله لغيره، فأما إذا لم يعبدوه فلا يصدق عليهم أنهم اتخذوه إلهاً، وكذلك إذا لم يؤدوا حقوق عبادته كلها لم يصدق عليهم أنهم اتخذوه إلهاً.
وأما الذين قالوا: إن هذه الأحاديث في كلمة (لا إله إلا الله) محمولة على أول الأمر، فيقول بعض العلماء: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) -ونحو ذلك- محمول على من دخل في الإسلام لأول مرة، فإنه يكف عنه، ولكن بعد ذلك ينظر في حاله: فإن استمر في العمل بمعنى لا إله إلا الله يكف عنه كفاً تاماً، وإن لم يستمر في العمل بها، ولم يؤدِ حقوقها؛ فحينئذ يعود إلى ما كان عليه، فيقاتل عليها؛ لأنه قالها ولم يعمل بها.
وهناك من حمل قوله: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه) ، أو (حرم الله على النار من قال: لا إله إلا الله) على أن المراد نار الكفار، يعني: التي يخلدون فيها.
يعني: أنه وإن دخل النار فإنه لا يخلد فيها، أو لا يدخل نار الكفار، وهذا خلاف ما في الأحاديث المطلقة.
فإذاً: نحمل أحاديث الرجاء -التي فيها النجاة لأهل لا إله إلا الله- على أن المراد: من قالها صادقاً من قلبه، وانطلقت جوارحه بالعمل بمقتضاها، فأنت إذا دعوت إنساناً إلى لا إله إلا الله، فنطق بها، وقال: أقول: لا إله إلا الله، وأقول: إن محمداً رسول الله.
فطالبه بعد ذلك بمعناها، قائلاً له: ما معنى الإله؟ أليس الإله هو المألوه أو المعبود؟ نطالبك بأن تعبده، وأنت أقررت بأنه المستحق للعبادة، فأين العبادة؟ من العبادة أركان الإسلام من العبادة واجبات الإسلام من العبادة مكملات الإسلام من العبادة ترك المحرمات في الإسلام، طالبه بمعنى ذلك، وقل: هذا هو التأله، إن أتيت بذلك فأنت صادق، وإلا فأنت منافق؛ لأن الذي يقولها ثم لا يعمل بها شبيه بالمنافقين؛ فإن المنافقين يقولونها ليحموا بذلك أموالهم وأبدانهم، أما المؤمنون فإنهم يقولونها ويطبقونها.